أرشيف «صوت الشعب» يفاخر بالنادر من كنوز الماضي.. ويعاني من الحاضر المتردي

دينا ابي صعب
«إسمع يا رضا صوتك»، يقول إعلان إذاعة «صوت الشعب» الذي يتكرر منذ سنوات.
و«رضا»، هو المواطن في كل ظروفه، عاملاً وفلاحاً وسائق سيارة أجرة وناشطاً اجتماعياً، وطفلاً وكهلاً وسيدة ورجل، هو الشخص المعنوي الذي جسّدت «صوت الشعب» عبر مسيرتها الطويلة همومه ومشاكله اليومية وطرحت مخاوفه وعبرت عن آرائه.
التزمت الإذاعة فيما قدمته منذ افتتاحها في شباط 1987 من برامج سياسية وثقافية واجتماعية بمعايير ومقاييس فنية وحرفية مدروسة ومرتفعة، متكلة على أرشيف منوّع وغني، تضمن الأغنيات والبرامج والموسيقى التي تنوعت بين التراثي والحديث والتجريبي والكلاسيكي والفلكلوري.
لكن، ماذا يحتوي هذا الأرشيف من كنوز مخبأة؟ كيف تتم حمايته؟ وما الذي يبث منه عبر الأثير؟ وكيف ترفده الإذاعة بمواد جديدة رغم الضائقة المالية والفنية على السواء؟
بين الكومبيوتر و«الريل»
اعتمد أرشيف الإذاعة منذ بدايات بثها على تبرعات أفراد وبيوت ومؤسسات ثقافية عريقة، شعر أصحابها أن بالإمكان مشاركة نوادرهم الموسيقية القيّمة مع مستمعين آخرين من خلال إذاعة رفعت شعاراتهم وحملت همومهم.
تقدر محتويات الأرشيف الموسيقية والغنائية بعشرات الآلاف، من بينها مجموعة أغنيات مسجلة للسيدة فيروز وللموسيقار محمد عبد الوهاب وللسيدة أم كلثوم يزيد كل منها على الألف أغنية، بالإضافة إلى أعداد لا تحصى من مقطوعات الموسيقى الروسية والعالمية وموسيقى الجاز والبلوز، والكلاسيكيات العالمية المحفوظة على أسطوانات كبيرة و«ريل».
لكن رغم ضخامة الأرشيف، الذي يعتبر الثاني من حيث الحجم والمادة بعد أرشيف الإذاعة اللبنانية، يؤخذ على «صوت الشعب» تكرار بث أعداد محددة من الأغنيات واستخدام مجموعات موسيقية دون سواها في تنفيذ جنريك البرامج التي تقدمها، فأين الخلل؟
يعود التناقض بين كم المواد المحفوظة الهائل والقليل الذي يبث منها إلى عملية تحديث الأرشيف، التي اعتمدت على الكومبيوتر منذ بضع سنوات من أجل تسهيل العمل، لكن المواد التي بقيت على اسطوانات قديمة نادراً ما تجد من يتعامل معها، خصوصاً ان الأمر يتطلب دقة وحرفية وجهداً مضاعفاً من قبل مهندسي الصوت الذين يفضلون اللجوء إلى بث «الأسهل» تقنياً، أي ذاك الموجود على أجهزة الكومبيوتر.
يؤكد مدير البرامج في «صوت الشعب» رضوان حمزة أن «العمل على نقل القسم الأكبر من المحفوظات إلى المكتبة الرقمية سيتم أولاً بأول، إذ تنوي الإذاعة تخصيص أحد استوديوهاتها (استوديو 4) لنسخ هذه المواد، بعدما أُنجز جزء لا بأس به من هذه المهمة»، لكن أزمة الإذاعة المادية التي دفعتها إلى الاكتفاء بمجهود الزميلة عبير أبو دياب وحدها في الأرشيف وإلى تقليص عدد مهندسي الصوت، تجعل مهمة الأرشفة الرقمية الكاملة صعبة إن لم تكن مستحيلة حالياً.
خميرة برامج
لم يقتصر الأرشيف على الموسيقى والأغنيات، ويعتبر حمزة «أن كثافة إنتاج البرامج الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية والتمثيلية وتلك الخاصة بالأطفال في السنوات السبع الأولى من عمر الإذاعة شكل خميرة جيدة كَمّاً ونوعاً للأرشيف»،ويقول حمزة أن الإذاعة في هذه الفترة تحديداً «احتضنت حركة تمثيلية شارك فيها مئات الممثلين اللبنانيين، وأعيد بث العديد من هذه البرامج في فترات لاحقة، لكثرة ما قدمته من معلومات ومفاهيم لم تتقادم مع مرور الوقت»، وكان أكثرها شهرة «العقل زينة» لزياد الرحباني، و«يا ولد يا أزعر يا لذيذ» لأحمد قعبور وأحمد علي الزين، و«على سن الرمح» لجوزيف حرب عام 1987، و«ما بيصح إلا الصحيح» لصلاح تيزاني وبعض البرامج اللغوية مثل»من قضايا اللغة» لعفيف دمشقية (1990-1992) و«لغة الحياة» لجواد صيداوي (1988)، و«المتشائل» لمشهور مصطفى نقلاً عن أعمال إيميل حبيبي، و«المؤشر» برنامج اقتصادي لموسى عاصي.
أما عن مسألة تغذية الأرشيف بشكل مستمر، فيقول حمزة إن «غالبية الأعمال الجديدة متدنية المستوى، والجيّد منها يقدمه أصحابه إلى الإذاعة، لكنه لا يساعد على تراكم المادة، أما القسم الأهم من المواد التي يتغذى بها الأرشيف فيهبه محبو «صوت الشعب» الكثر من موظفين أو أصدقاء، يتنوع بين الجديد والنادر، العربي والعالمي».
دور محوري
ساهم الأرشيف بشكل أساسي في قدرة الإذاعة على تخصيص فترات بث محددة عودت المستمع من خلالها على انتظار ما يحب سماعه، إذ استطاعت بفضل الوفرة في الأغاني ذات النوعية العالية تخصيص الفترة الصباحية لمتابعة أعمال لبنانية لمغنين لم تنصفهم وسائل الإعلام أو غابوا عن الساحة الفنية، مثل سوزان عطية وحياة الغصيني ونهوند ووداد ورجا بدر وسواهم من نجوم السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وخصصت السهرات لتقديم المسرحيات مثل مسرحيات شوشو والرحابنة وروميو لحود وسيد درويش (العشرة الطيبة)، إضافة إلى أغاني الطرب على مدارسه.
الأغنية الملتزمة
اعتبرت «صوت الشعب» ملاذاً لفنانين آخرين لم تلق إنتاجاتهم الفنية متسعاً في بحر السائد في موضة الغناء، مثل أعمال ريما خشيش وتانيا صالح ولينا شاماميان وأمل مرقص وسعاد ماسي.. ورسخت مسألة وجود خط غنائي مرادف وأصيل يختلف عما تبثه وسائل الإعلام الباقية من أغنيات تحمل هموماً مقزّمة. فعُرِّف هذا اللون تاريخياً بالأغنية الملتزمة من حيث الكلمة والموسيقى والأداء البعيدة عن الابتذال، كما تميز هذا التوجه الغنائي بالاعتماد على آلات وأصوات حقيقية غير مسجلة ولا معالجة بالكومبيوتر. إلى جانب الملتزمين المحدّثين، برز الشيخ إمام كـ «مسلّة» في خاصرة الأنظمة العربية نجماً في «صوت الشعب» بعدما مُنعت أعماله في مصر، إضافة إلى سميح شقير ومخول قاصوف وفرقة «الأرض» التي اشتهرت أعمالها حتى أواخر الثمانينيات وأحمد قعبور في أعماله الأولى وسامي حواط ومارسيل خليفة وسواهم..
رافقت الإذاعة تطور بعض هذه التجارب وأفول بعضها الآخر، كما سلطت الضوء على أسماء وتجارب غنائية فولكلورية وكلاسيكية عربية كان من الصعب على ذواقة الفن اكتشافها ومتابعة اعمالها، بدءاً من العراق مع سيتا هاكوبيان التي عرفت أواخر الستينيات باسم «فيروز العراق» وأشهر أغانيها «يا حبيبي الفجر قصة تروي أحزان العمر، والمطر قطرة ورا قطرة على جفوني سحر..» وزهور حسين وناظم الغزالي، مروراً بصفوان بهلوان ومصطفى نصري وماري جبران من سوريا، إلى سيد درويش وأحمد بران ومحمد عبد المطلب في مصر، إلى التراث التونسي وأغنية «تحت الياسمينة بالليل»... أضف إلى هذه الأسماء فرق الموشحات مثل عبد الحليم نويرة وسليم سحاب، والفرق الغنائية الحديثة مثل «كلنا سوا» السورية، وصولاً إلى «شحادين يا بلدنا» اللبنانية وغيرها.
أرشيف «صوت الشعب» كنز موسيقي وغنائي ضخم، يلخص تاريخ الفن العربي المسجل، ويختصر سيرة أعمال وأسماء عريقة دارت في فلك الموسيقى، لكن العبرة تبقى في القدرة على المحافظة على الموجود وإضافة الجديد، ليبقى لـ«رضا» «صوت الشعب» التي تشبهه، وارتباطه بتاريخ الوطن والأرض من خلال الأغنيات والموسيقى.