جمال حسين علي مؤلف كتاب "قمجة النار – نساء في ليالي الحروب" مراسل صحافي جال بحكم مهنته في أكثر أماكن العالم حروبا وتهجيرا ومعاناة، فصوّر بالكاميرا المآسي على وجوه الانسانية وصوّر بالكلمات ذات المنحى الشعري معاناة الناس حين تتآمر عليهم الدول، حاول ان يبلسم جراح الانسانية باعلان المآسي واظهار المعاناة للعالم بالشعر والقصة والتحقيق وغيرها من أشكال النظم، فوجدها ذات جدوى وفاعلية، فوضع يومياته وذكرياته في هذا الكتاب.
ولا يكتفي بنقل انطباعاته عن جولاته ورحلاته في أصقاع مختلفة، بل ينقل ايضا انطباعات الناس ومواقفهم من قضايا وحروب وألاعيب سياسية تحدد مصيرهم. ويهتم بالمحيط الذي تدور فيه ذكرياته، لكنه يركز ملاحقته الصحافية على النساء في المجتمع ودورهن من ربات منزل... حتى اللواتي يمارسن أقدم مهنة في التاريخ وأكثرها بقاء، أما اهتمامه الاساسي فيتركز على أرامل الحروب اللواتي يتزايدن باستمرار أو هنّ سباياها، والعادة ما زالت قدوة. لقد عالج حال النساء في كل نكباتهن: لاجئات، مشردات، محرومات، مغبونات، مستلبات، حزينات، نائحات... وغيرها من صفات المرأة الشرقية المقهورة والتي زادتها الحروب من هذه الصفات كمّا ونوعا.
الأفغانية: الجسد المفقود
نبدأ بالمرأة الافغانية التي يعرض لنا عنها واقعا مختلفا عما يعلنه الاعلام، خصوصا بعد خروجها عن سيطرة "طالبان" التي حكمت على المرأة بمفاهيم الجاهلية وظنت انها أحكمت السيطرة عليها بالبرقع الطالباني البشتوني الاصل – والبشتون يقال انهم من أصل يهودي – فيما مراوغة المرأة الافغانية وكيدها كانا أكثر فاعلية من "الخيمة التي فرض عليها حملها كلما خرجت من بيتها، وهي كثيرة الخروج بدواع وذرائع مختلفة. فهذه "الخيمة" التي تشكل ثقلا على حياة المرأة ونفسيتها، لن تحول دونها وخفة الحركة وكثرة الاشارات اللافتة اليها، اذا ما خرجت للضرورة، والضرورات كثيرة فهي العمود الفقري للمنزل في الداخل والخارج. ولعل أهم أعذار النساء للخروج الى الاسواق حيث حرية الحركة والتحرك، التحضير للأعراس التي تزداد وتكثر. ومن الذرائع ان النساء الافغانيات يتجمعن في المستشفيات التي تتحول منتدى لهن ليس لأنهن مريضات بل لأنهن برفقة قريب او نسيب.
أما الآن فصار نزع البرقع في يد المرأة الافغانية برغبة منها وارادتها بعد موافقة زوجها او أخيها. لكن ما زال البرقع محكم القيد حيث سيطرة البشتون.
وما فاجأ المؤلف هو ان المرأة الافغانية المغلوبة،
على أمرها، تمارس من المهمات ما تتفوق فيه على أخريات في بلدان عطرة كسمعة نسائها. فهناك امرأة تسيطر على سوق صرف العملات، وهناك نساء الطبقة المخملية يمارسن شتى أنواع الرياضة، وإن داخل جدران وفيهن عضوات في "الكمسمول" السوفياتي سابقا، وبعضهن ينتسبن الى المخابرات الاميركية.
أما البحث عن الجسد المفقود فلا يحتاج إلا الى مأذون شرعي وسيارة تاكسي. فالمأذون يعطي "قائمة بالمتيمات والمنتظرات السيد الزوج، زوج الليلة الواحدة! ومع القائمة بالاسعار: الزواج لليلة واحدة، لاثنتين، لأسبوع،... الخ. وكذلك العمر (يضرب الاسعار أضعافا. لو كانت عذراء، بالطول، بلون البشرة، بالوزن!) ولكل فقرة سعرها بالطبع". والدفع للمأذون الذي يمارس ايضا دور "التثقيف الجنسي". ويطلب استخدام الواقي الذكري في الممارسة "ولو تطلب الامر يعرضها عليهم ولو تصوروها "علكا" او نفاخة يمكنه حتى تجربتها أمامهم. ولِمَ لا، فلا حرج في الدين، فدكان المأذون فيه دولاب خاص يبيع فيه ما يشاء من بضاعة "الكافرين" الممنوعة في الصيدليات: حبوب منع الحمل، موانع رجالية، مقويات جنسية... هو الوحيد الذي باستطاعته ملء سراويل الرجال بكل ما طاب، فلا حرج، ما دام كل شيء يجري بالمعروف!".
هذا ما كان في عهد "طالبان"، فهل اختلف الامر الآن؟
يقول المؤلف ان المهنة خرجت الى العلن، و"من يقود عملية بيريسترويكا بيزنس الدعارة في أفغانستان وغلاسنوست التسعيرة الجديدة، هم المأذونون الشرعيون الكبار، أي الذين كانوا يشرفون عمليا على "بيزنس زواج المتعة" في البلاد... وهم في المفهوم المعاصر قادة مافيات الجنس"، وقد وضعت تسعيرات من "الجنس الطفيف" الى الممارسات المختلفة.
ويستخدم المؤلف أسلوب الرمزية في تناول بعض الشؤون والاستعارة في وصف المرأة الافغانية وحياتها، خصوصا في "صيدها للمعذبين". ويتغنى بجمالها الذي لا مثيل له.
الشيشانية: نقمة على المقاتلين
المرأة الشيشانية وجدت نفسها ضمن 200 الف بلا مأوى، تحولوا لاجئين في انغوشيا، يعرض اوضاعهم - اوضاعهن التي تشبه أوضاع اللاجئين في كل دول العالم – وسبق ان عانينا هذا الأمر في وطننا، وعاناه الجنوبيون مراراً، آخرها صيف 2006 – وموضوع المؤلف يتناول حالة آنية العام 1999 لاوضاع اللاجئين.
ويتطرق المؤلف الى مدينة غوديرميس التي كانت مركزاً أساسياً للمواصلات والتجارة في العهد السوفياتي وفقدت اهميتها مذاك وتحولت خراباً، واذ ينظر الى مأساة أهل الشيشان ينتقد الحكام الشيشانيين الذين يتشدقون بالاقوال من دون الافعال، حتى ان شاعر داغستان الكبير رسول همزاتوف وصف دعوتهم الى الاستقلال بأنها غباوة وكذب. وتساءل المؤلف مع الشيشانيين "ماذا يعني الاستقلال اذا كنت لا تملك الكهرباء والغاز والماء وتتعامل بالنقود الروسية وتحمل الجواز الروسي ووثائقك كلها بالروسية وكتبك المدرسية واحاديث الناس في الشارع وطريقة حياتهم وملبسهم ونظامهم اليومي كذلك؟ حتى الصلاة يؤدونها باللغة الروسية! أين الاستقلال إذاً؟".
ويظهر نقمة الشيشانيات على المقاتلين والذين يحكمون باسمهم. فهذه فتاة نالت ماجستير في الاقتصاد وهي بلا عمل قالت "ان البلد الذي يلعب بمقدراته من لم يكملوا حتى المدرسة ولا اقتصاد فيه، لا يحتاج الى ماجستير في الاقتصاد"، ورأى طفلة تحمل قصصاً باللغة الروسية، فسأل أمها: هل تتقن ابنتها اللغة الروسية؟ أجابت بأنها معلمة وعندما المدارس تعمل كان الاطفال يحبون مادة اللغة الروسية. وفسرت ذلك بأن كل الكتب ومجلات الاطفال وأفلام الصور المتحركة بهذه اللغة. ونادراً ما تجد أحدا يتحدث باللغة الشيشانية سوى بعض الشيوخ، وقال المؤلف معبراً عن النقمة على الحكم المحلي ومقاتليه، فقال: ذكرت لي بعض النسوة في المدينة، في ما بعد انهن عندما شاهدن طائرتنا امعنّ النظر فيها، وكذلك الاطفال الذين حسبوها لعبة بدلاً من مدينة الالعاب المبنية في الاوقات السوفياتية والتي لم يكلف اي نظام حل في الشيشان طوال التسعينات نفسه فتحها امام الاطفال رغم ان الكهرباء كانت تصل اليهم بالمجان من روسيا".
واضاف: أحسب ان وقوف هذا الدولاب هو وقوف الزمن في الشيشان منذ انقلاب دوداييف العام 1991 وحتى الآن، لقد توقف الزمن في الشيشان كلياً".
الكردستانية: الحرية أغلى من البيت والأرض
يعبّر المؤلف عن اعجابه الكبير بالمرأة الكردستانية التي تحمل 50 سنة من القهر والمعاناة على منكبيها. منذ اضطهاد الحكم في العراق الذي حشر المرأة في الاعمال الخدمية اضطراراً بعدما ساق الرجال الى جبهات حروب التحرير "وتلقت النساء مقابل العمل المشابه للسخرة اجوراً زهيدة".
ويتعاطف مع هذه المرأة، ضمن تعاطفه مع المرأة العراقية عموماً التي تعاني الأمرين من قوانين وضعها حكام متسلطون، واكثرها وحشية قانون "غسل العار" الذي يحكم في شرف المراة بواسطة "مفوض شرطة مرتشى ومتخلف ويحمل كل الأمراض الزهرية والنفسية". وجمع معاناة المرأة في "جرائم التطهير العرقي والاغتصاب والاعتقال والتعذيب واستخدام المراة لابتزاز رجال العائلة وسوقها الى المعتقلات الجماعية، كما جرى في حملات تجفيف الأهوار والانفال التي كانت فيها نسبة المرأة الأعلى في هذه الممارسات القمعية".
لقد ساهم جلال طالباني في رفع الغبن عن المرأة الكردستانية بتصحيح القوانين كي تحسن وضعها الاجتماعي والغى قانون "غسل العار" ومنح المرأة الحق في العمل السياسي وبناء المجتمع. كما اعطيت نسبة 25% في البرلمان.
ويكشف جمال حسين علي عن حب الكرد للحرية، رغم القمع الذي مورس عليها سواء في العراق او في تركيا، او بسببه وها هم يحاكون "هايد بارك" لندن بـ"بارك آذادي" (الحرية) وهو بارك الحب والكلام المباح. كذلك التصوير مباح، فالمرأة الكردية تطلب ان تصورها او تصور امها او جدتها فلا عيب في الأمر ولا عيب في الحرية. سأقتبس هذا الحوار مع المرأة الكردية المهجرة ففيه جوهر رحلات المؤلف في كردستان، بل جوهر الرحلات كلها. واجمل المعاني التي توصل اليها في هذا الحوار: انا كردية، كيف اصبح عربية؟ تتساءل المرأة بفطرة وانسيابية.
قلت لها: لكنه مجرد توقيع تكفّون فيه الشرّ عنكم. بلا تردد اجابت: اليوم نوقع وغداً في جيش القدس؟ لا. لا.
فهل حالكم الآن افضل؟ نعم. كيف وقد تركتم دياركم وبيوتكم؟ لكننا احرار، لقد كسبنا الحرية. وهل الحرية اغلى من البيت والأرض؟
اغلى من كل شيء. لا تتصور كم نحن سعيدون هنا بالحرية! أتصوّر وكذلك أرى، فلا شيء أثمن من الحرية.
حكايا غير منظمة عن فتك حكم البعث بالأكراد، من كل واد عصا، لكن في النهاية يتشكل سد من العصيان، وملخص الحكايات، حكاية، نسمعها من نهايتها: "عدنا من الحقل بعد مغيب الشمس ولم نجد احداً في القرية، اخذوا كل من فيها، اطفالاً ونساء وشيوخاً ورجالاً، حتى الحيوانات، وهكذا نحن على هذه الحال طوال سنين. لم يكن احد منهم بيشمركة. لا نعرف لماذا اخذوهم وماذا حلّ بهم!".
العراقية: "أخت الرجال" اذا ملكت زمامها
للمرأة العراقية حصة الأسد في الكتاب، نحو نصفه، يعرض لأحوالها واوضاعها في كل منطقة من العراق وفي كل حركة فيه، فضلاً عن صفاتها ونعوتها واعمالها... وكل ما يتعلق بها، حتى وان كانت لا تزال "تعدّ بمثابة الفدية التي تقدمها العشيرة للعشيرة الأخرى في حال الاختصام او وقوع حادثة قتل، فتمنح العشيرة عدداً من النساء للعشيرة التي تطالب بالثأر بما يسمونه في العرف العشائري "الفصلية" اي ان المرأة تحولت سلعة للفصل في الخلافات، كالنقود تماماً او الاغنام او الابقار، فمثلاً تكون نهاية عملية الفصل التي يشارك بها شيوخ العشائر المحتكم اليها اطراف النزاع كالتالي: مليون دينار و100 رأس غنم و10 جاموسات و 5 بقرات و3 نسوان!".
ويتوج هذا الموقف الدوني من المرأة العراقية قانون "قضية الشرف" وجرائمه لا حصر لها ولا احصاء.
عالجت نصوصه المرأة العراقية في كل حالاتها ونكباتها: لاجئات، متشردات محرومات، مغبونات، مستلبات، نائحات، باغيات او بغايا... وغير ذلك من حالات القهر والذل والعنف والانمعاس. لكن في كل حالاتهن يصح فيهن المثل "اخت الرجال" ولا سيما بينهن الاهوازيات.
ويعرض المؤلف المشكلات التي تواجه المرأة في كل شؤون حياتها وشجونها، ويصور مشاهد من بغداد، بل العراق باسلوب التورية والاستعارة احياناً وبالشعر احياناً أخرى، او بكلام منمق يوارب الحقيقة كما يوارب كلامه، او عبر تحقيق صحافي عن صالونات تزيين الشعر مثلاً التي تتحول من صالونات تجميل وتبرج الى صالونات تبصير وتبريج وحتى "تخطيب"، فيعملن خاطبات او يفتحن صالوناتهن لصاحبات المهنة، وثمة قصص وروايات كثيرة عما تتعرض له المرأة العراقية ومنها ان احداهن تعمل سائقة تاكسي اطلقت النار على من حاول سرقة سيارتها ولحقت به في الشارع تطلق عليه وعلى رفيقه النار من مسدس.
يرغب المؤلف في التلاعب بالكلمات والعبارات حتى لو استوى النص غامضاً مربكاً. مثلاً هكذا يصنع البغاء حضارته في حضرة الحرب بذنب شعارات المجد وتبرم المدارك للمهنة الأقدم"، وعليك احياناً كثيرة ان تدقق في المعاني وتحكم العقل كي تعقل وتفهم. واحياناً يدفعك الى ان تغوص معه في شعر منثور لا تفهمه الا بالتأويل. ويلامس احياناً الافئدة واحياناً العقول بغية طمأنة النفس في مرابع الاضطراب.
أخيراً ان رقص المرأة هو التعبير المتجلي عن كل معاناة في كل المجتمعات رفضاً وحزناً او احتجاجاً... هو القاسم المشترك بين نساء الارض، ولا سيما الشرقيات، انىّ كنّ من المغرب الى الصين، انه التعبير الاوضح والأعمق والأفضح عن مأساة المرأة في الشرق. يقول جمال حسين علي: الموسكوفيات اسقطن انقلابين في 1991 و1993 بالرقص في الساحات والكرديات يبتهجن بالرقص الذي يزيل عنهن العنف التاريخي في الاعطال والتجمعات والاعراس وحين يعبّرن عن رفضهن لموقف سياسي ويشتمن دولة جارة بالدبكة. والشيشانيات يعقن تقدم الدبابات الروسية بحلقات رقص ديني، والافغانيات يؤدين رقصاتهن بعد ازالة كابوس طالبان المرعب... والعراقيات رقصن عند مداخل المراكز الانتخابية، ويرقصن حتى في مواكب الاحزاب، فالأناشيد تصاحب مواكب العزاء تمنحهن الفرصة للتعبير عن الحزن بالجسد وحركات متفق عليها، وان كانت مرافقة للطم، لكنها نوع من الرقص او تجسيد الحزن بحركات راقصة مثل تمايل الرأس والاكتاف وهرمونيا الايادي والاقدام، فلا خطأ ولا نشاز في عملية الرقص الحزين" .
ان الرقص هو "عدة الشغل" كل شغل، من اقدم مهنة الى احدث حرفة، انه العدة لواقع مزر او حب مرتجى.
جوزف باسيل