جعفر العطار
كأنهم ورود ذبلت.
تتوزع غرفهم المتعددة الأسرة، على طول الرواق المؤدي الى الصالون. وفي كل مخدع، توجد أكثر من مروحة، شأنها تلطيف الجو في وقت الظهيرة، وتبريد الهواء الرطب الذي سرعان ما يتحوّل ناعماً ما أن تلملم الشمس أذيالها عن سماء مدينة بيروت. هناك حيث تقبع مستشفى دار العجزة الإسلامية.
قاعة فسيحة، نوعاً ما، تحضن أربع كنبات جلد من اللون الأسود. ليست وثيرة، لكنها ليست متقشفة. يصدح من التلفاز الحديث الطراز، صوت مغنية مشهورة. تتنقل كلمات الأغنية على مسامع السيدات بهدوء تشوبه اللا مبالاة، فلا ضير ان أكملت المطربة أغنيتها أو لم تكمل ما بدأت به هادئاً، فأصبح صاخباً.
تتقدم احدى الممرضات، وهي شابة سمراء طويلة القامة، صوب سيدة سبعينية تمسك معصم يدها اليسرى براحتها اليمنى. تمرر الممرضة يدها على جبين السيدة بخفر ولطف من دون أن تسألها السيدة المسنة. هنا الطابق الثاني من المستشفى، وهو مخصص للنساء. وبالتحديد: النسوة العجّز.
لكل سيدة قصة، ولكل قصة بداية ونهاية. نهاية أفضت، في طبيعة الحال، الى أن تجد الأم نفسها هنا، في هذا المكان الضبابي. القصص كثيرة تختصر بعبارات مثل «الأهل يربّون.. والأبناء يرمون» و«ست الحبايب.. وحيدة»، وغيرهما. الا أنه «اللي راح.. راح»، والذي راح هو عمر طويل، ينتظر مجهولاً لا يصغي إلى من يسأله عن العمر المتبقي.
تتمدد عنبرة حرب على سريرها الصغير، في الغرفة التي تجمع ثلاثة أسرة تقابلها شاشة تلفزيون معلقة على الجدار. يلفح الضوء وجه السيدة بسكون. لا تعلم كم عمرها، وجل ما تعرفه هو أنها من مواليد العام 1924.
الشعور بالوحدة هو سبب مكوث هذه السيدة في دار العجزة. فعنبرة تحبذ العيش بين الناس من جهة، ووحيدة من جهة ثانية. لكن، كيف هذا؟ تجيب: «الناس يجعلونك تشعر بالطمأنينة التي لا نراها، ومع هذا الشعور، المعطوف على العناية الطبية وغيرها، يمسي العيش بوحدة مؤنساً وآمناً». لعنبرة أربعة أولاد، فارقوا الحياة جميعهم. تقول عنبرة إن «الفتاة الأولى توفيت جراء الحسد (صيبة عين)، فهي كانت جميلة جداً. أما الثانية، فماتت عندما...».
تراكمت الأيام وتتابعت، كما يتراكم ملح البحر على الأحجار والحصى. توفيت الجنين، وهي الفتاة الثانية، في بطن أمها. تغرورق عينا الأم لحظة تذكرها كيفية وفاة ابنها الثالث، تحاول ـ عبثاً ـ أن تتذكر. «صدقني نسيت.. بس اللي بتذكره انو كان عمرو 25 سنة»، تردف بصوت رتيب. هنيهات وتنسكب الدموع من عينيها المغلقتين، فتعمد الى فتح جفنيها بمشقة.
سؤال لتلطيف الأجواء وتغيير الموضوع: «حرب.. من الجنوب؟» ترسم ابتسامة على وجهها وتجيب «كلا.. من بيروت». الوقت.. الزمن.. المناسبات، هذه كلمات لا جدوى منها عند عنبرة. فهي غير معنية بالزمن أصلاً. لعنبرة روتين يومي يتكرر: الاستيقاظ على آذان الصبح والصلاة، ثم تلاوة القرآن الكريم. وبين الفينة والأخرى تمكث أمام التلفزيون. بيد أنه، لهذا الروتين، نهاية خاصة تنتظرها ـ بسعادة ـ السيدة العجوز: «لقاء ربي»، كما يحلو لها تسمية الموت.
تبدأ «الحياة» في هذا الطابق عند الصباح الباكر، مع بدء موعد الفطور عند الساعة السابعة صباحاً حتى الساعة الثامنة. وبعدها «يأخذ النزلاء الدواء، ثم الدوش (الاستحمام) الصباحي»، تقول مديرة التمريض ميسر الشريف. بعد الاستحمام، تجلس السيدات في غرفهن لحين الساعة الحادية عشرة، قبل أن يأتي موعد «الصبحية» في الصالون، والذي قد تتبعه (وفقاً للبرامج المعتمدة) «مشاوير» و «كزدورة» الى أماكن متعددة، بالاضافة الى جلوس الرواد في الحديقة الواقعة في أسفل الدار، هناك حيث تكون الدردشة بين المرضى عنوان الجلسة.
تشير ميسر، والتي تحب النزلاء تماماً كما تحب أهلها، الى أن الترويقة تتفاوت بين الألبان والأجبان والمناقيش والكنافة. «انو متل ما نحنا منتروق» تقول ضاحكة. ويلي الغداء، الذي أيضاً يتنوع بين الطبخة والأخرى، تناول الفاكهة الطازجة والعصير.
وبالنسبة للأسباب الأكثر شيوعاً المؤدية الى ادخال المسنين الدار، تقول هلا قاروط، وهي معالجة انشغالية، بأن «الزهايمر هو السبب الرئيسي. ونحن نلجأ الى تنشيط ذاكرتهم وتدريبهم على كسب الاستقلالية، بالاضافة الى أنشطة وتدريبات عدة».
تجلس سيدة ستينية خلف منضدتها المنتصبة أمام سريرها. تحمل بيدها جهاز التحكم بالتلفاز. تنتقل من قناة الى أخرى. الى جانبها، ترقد ثلاث سيدات مسنات. إحداهن تفرك براحة كفها اليمنى ساقها اليسرى. السيدة اسمها سكنة عليوب.
في العام 1998، وبعد وجع حاد في ظهر سكنة خضعت لعملية جراحية باهظة الثمن، أفضت الى حل لا مهرب منه، وهو اللجوء الى جلسات العلاج الفيزيائي. حينها، طلبت الأم من أولادها أن يدخلوها دار العجزة «لأنه هناك (في الدار) يوجد من يهتم بي.. هذا وأنتم لا حول لكم ولا قوة». وفعلاً، أدخلت الأم الى الدار منذ ذلك الحين.
ليس للوقت معنى محدد عند عليوب، وهي ـ المعروفة بكثرة صداقاتها في المستشفى ـ تنتظر بشغف وقت الصلاة، فقط. ولا تكتفي السيدة اللطيفة من الحديث، وبدماثة لافتة، عن تلك الفترة (عندما طلبت من أبنائها ادخالها الى الدار) بصيغة التساؤل، بقدر ما يحمل كلامها «التاريخي» ثقة وحزماً. فتسهب بالسؤال «انت يا ابني.. اذا أمك مرضت، ما بتحطها بالدار؟»، ولتطييب الخاطر، لا بد أن يكون الجواب.. إيماءة بالرأس تقول نعم.
من هو رئيس الجهورية الحالي؟
انه ليس بالسؤال العسير بشكل عام، بيد أنه يأخذ وقتاً من التفكير الطويل في بادئ الأمر، عند بعض السيدات في هذه الرقعة الصغيرة، حتى يصبح سؤالاً مستعصياً لا اجابة عنه سوى «والله ما بعرف» أو «للصراحة.. نسيت». سؤال آخر: «متى أجريت آخر انتخابات نيابية؟» لا اجابة عن الزمن المحدد، بل جواب واحد «الحريري ربح». الأب، أم الابن؟ «الأب استشهد!». الجواب لا يعجب السيدة القابعة في زاوية الصالون، فتردف بحنق: «لأ! الرئيس بري ربح!».
...ورجال
الى الطابق الرابع..
انه وقت صلاة الظهر. تجتمع ثلة من الرجال حول الطاولة الخشبية المستديرة في صالون تغلب عليه العتمة، على عكس صالون النسوة الفسيح والمضاء. تستقر رحلة «البحث» على شاشة التلفزيون على احد الأفلام الأجنبية.
يسود الطابق صخب مؤقت. فهناك ورشة صيانة في القسم ألف، حيث يرقد 61 مسناً. يختفي الجنس اللطيف هنا، أي الممرضات، ليستعاض عنهن بالشبان، الذين يصرّون على معاملة المرضى وكأنهم أهلهم. يغلب صوت الورشة على الهدوء لهنيهة. يعلو صوت الأحاديث الجانبية قليلاً.
في الصالون يجلس عبد الرحمن عباس وعمره 82 عاماً. تعلم بأن الوقت «أهم وأثمن شيء في الدنيا، فهو يمر كلمح البصر». عباس أيضاً لا يعرف من هو رئيس الجمهورية، لكنه يدرك تماماً أنه في الانتخابات الأخيرة قد انتخب الحريري «لأني بحبه».
يستعيد عباس شريط ذكرياته، وكأنه لفافة من الصور الماثلة أمام عينيه اللامعتين كالمعدن تحت الحواجب البارزة. يقول عباس إنه كان سمكرياً مهماً، و«كل زبائني كانوا خواجات وتقالة». جلّ ما يريده عباس هو أن يقدروا أولاده ثمن الوقت وأن «لا يتركوا الصلاة، كما لا يتخلفون عن مواعيدهم». أما هو، فيقضي وقته بالصلاة والتسلية مع الأصدقاء.
ينهي الشيخ مصطفى صلاته. يجلس ليرتاح. تمتد لحيته الى أسفل عنقه. تتصلب قسمات وجهه ما أن يبدأ بالحديث. جبهته عريضة رحبة، وأنفه حاد. انه رجل لم يلبث على مكوثه في الدار أكثر من ثلاثة أشهر. هو أعزب. كان الشيخ مصطفى مســؤولاً عن مســــجد زقاق البلاط. الرجل لم يتزوج نظراً لظروفه المادية القاسية. وهو يبلغ من العمر 67 عاماً. يقول الشيخ المصاب بداء السكري، إنه لم يكترث يوماً للدنيا «بل كنت أعمل للآخرة دوماً».
الشـــيخ، والذي تكفل باحضاره الى الدار بعض الأصدقاء والجـــيران، مصاب ايضاً «بالماء الزرقاء». الا أنه يجــــزم بأنه يرى الزمن والوقت المتبقي من حياته بنقاء، فــــهو لا يهتم الا بالصـــلاة والتسـبيح والتحــضير «لقاء ربي». هو أيضاً.
لغط شائع
تجدر الاشارة الى أن مستشفى «دار العجزة الاسلامية» تأسست العام 1946 على يد كوكبة «من أهل الخير والعطاء في بيروت»، كما هو مذكور في كتابها التأسيــــسي، وقد أسست على يد دولة الرئيس الحاج حسين بك العــويني.
ويقول مدير المستشفى عزام حوري إن الدار لا تمتّ بصلة الى جمعية «المقاصد الخيرية»، كما هو شائع عند البعض. ويستفيض حوري بالحديث، لافتاً الى أن المستشفى «همها الأساسي هو اشعار المرضى بالأمان من جهة، وتأمين الخدمات كافة التي يحـــتاجونها من جهة ثانية».
ويلفت حوري الى لغط شائع عند كثير من الناس، يتجلى بالتعريف الخاطئ تجاه الدار التي تحضن العجزة، فيقول «العجزة هم العاجزون عن تلبية حاجياتهم بأنفسهم، وهم في هذه الحالة بحاجة الى مساعدة من مختصين، هذا بالاضافة الى المرضى العجّز». ما يعني أن العجــــزة هم ليسوا كبار السن فقط. مع الاشارة الى أن رواد الدار هم من طوائف متنوعة ومتعددة.
كأنهم ورود ذبلت؟
ليس بالضرورة. هم ورود كبرت في السن. صارت بحاجة الى حب أكثر، غير أنها تحافظ على ذاك العطر السري للحياة.
اثنين | ثلاثاء | أربعاء | خميس | جمعة | سبت | أحد |
---|---|---|---|---|---|---|
31 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 1 | 2 | 3 | 4 |