الفيدرالية في أثيوبيا وليبرالية التعامل مع التعددية الاتنية والفقر

احمد بعلبكي
لم تحظ الثقافة العريقة في أثيوبيا ولا حاضرها السياسي، وهي بوابة العرب الاكبر الى أفريقيا، بالاهتمام البحثي الذي حظيا به في كل من تركيا وايران المجاورتين. فهل يمكن تفسير ذلك بالتواجه العقائدي الديني المزمن المرتبط باعتناق أقوى اتنياتها المبكر للمسيحية وقد شجعها على ذلك ورود اسم أثيوبيا سبعا وثلاثين مرة في التوراة ما دفعها إلى التصدي المبكر لتوسع الجوار الاسلامي وخاصة بعد رسوخ دولة أكسيوم التيغرية، التي مثلت مجدها التليد، منذ القرن الثامن الميلادي في موازاة ترسخ دولة الخلافة في الممالك العربية والافريقية المحيطة بها؟
كانت حدود دولة أثيوبيا أو الحبشة، الواقعة في وسط الساحل الافريقي الشرقي للبحر الأحمر، تضم جيبوتي وأريتريا التي استقلت عنها عام 1993، وكذلك أوغادين من أراضي الصومال التي ظلت اليوم داخل حدودها وتشكل إقليماً من أقاليمها التسعة (عُفار، أمهرة، بني شنغول، جامبيلا، هرري، أوروميا، أوغادين، الأمم الجنوبية وتيغراي). وقد غلب على ميول ملوك الإتنيات الأرثوذكسية القبطية فيها التطلع إلى الممالك المسيحية الأوروبية لدعمها في ردع الغزوات المتبادلة مع البلاد الاسلامية المجاورة. وسنحاول لاحقاً ايراد ما يُروى حول التوتر المزمن في هذا الجوار العربي ـ الأثيوبي.
مستويات التنمية البشرية([)
يُقـدر عدد سكان أثيوبيا وفق معطيات تقرير برنامج الأمم المتحدة 2005ـ2007 بتسعة وسبعين مليون نسمة. يشكل كل من الأرثوذكس الأقباط والمسلمين ما نسبته 40 % تقريبا. ويتقاسم النسبة الباقية أتباع الديانات التقليدية المحلية في جنوب البلاد وأتباع الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية، علما ان مثل هذا التقسيم الشائع للنسب داخل التشكيلة الدينية للبلاد لم يخفف من ارتياب المتشددين من المسلمين وادعائهم أن طائفتهم تمثل ثلثي سكان البلاد. يقدر سكان الحضر في البلاد بما نسبته 16%. وترتفع نسبة من تقل أعمارهم عن 15 سـنة إلـى حوالـى 44.5 % (مقابل 28.6 % في لبنان) ويقدر معدل نمو السكان بحوالى 2.8 % (مقابل 1.1% في لبنان).
أما على صعيد طاقة الموارد البشرية في أثيوبيا فيلاحظ أن نسبة الأمية لمن تزيد أعمارهم عن 15 سنة تصل إلى حوالى 77.2% في صفوف النساء والى 50% في صفوف الرجال (مقابل 93 % في لبنان للجنسين)، الا أن ما يُلفت هو ارتفع نسبة المشاركة السياسية للمرأة في البرلمان حيث بلغت في أثيوبيا 22 % مقابل 4.7 % في لبنان بالرغم من أن نسبة الواصلين من الأثيوبيين إلى الصف الخامس الابتدائي يقـدر بحوالـى 18 % ومن ان نسبة اشتراكات الأثيوبيين في شبكات الاتصال الهاتفي لا تزيد عن 10 % من اشتراكات اللبنانيين في الهاتف الثابت وعن 3 % من اشتراكاتهم في الهاتف الخلوي.
ينعكس ارتفاع مستوى الفقر في أثيوبيا أيضاً في واقع أن ربع السكان ممن باتوا تحت خط الفقر المدقع أو الأدنى يعيشون بأقل من دولار واحد يومياً وأن حوالى ربع آخر من السكان يعيشون تحت خط الفقر الأعلى وفوق خطه الأدنى أي بأقل من دولارين يومياً وفق تعادل القوة الشرائية المحلية مع الدولار. وتتزايد جماهير العوز المتوسع في ظل سياسات التكييف الهيكلي وتحرير الأسواق وتوسع البطالة وتراجع أسعار الصادرات الزراعية الأساسية وفي طليعتها البن والسمسم التي يعمل في إنتاجها 4 أخماس السكان في الأرياف سنوياً. ووفق معطيات أوردها تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعامي 2007 ـ 2008 تقدر حصة الفرد السنوية من إجمالي الناتج للبلاد (GDP) بما يعادل 1.055 دولار أميركي في مقابل سبعة الاف دولار للفرد اللبناني. ويُصنف ترتيب الدولة لجهة مستويات نموها بين دول العالم بأنها تأتي في الدرجة 169 من أصل 177 دولة.
وتتميز مواجهات الفقر في أثيوبيا عن البلدان الفقيرة المحيطة بها. فيلاحظ أن معدل البطالة المعلنة المقدر في تقرير برنامج الامم المتحدة الانمائي ﺒ 5 % لا يشمل البطالة المقنعة الواسعة المشار اليها في العمل الهامشي الذي تصل نسبته إلى 41 %. يحتشد هذا الصنف من العمل على سبيل المثال في صفوف عشرينية من الشباب على أرصفة الشوارع والساحات الثانوية والزقاقات يعرضون على المارة الجلوس على ما يشبه الكراسي لتلميع أحذيتهم بماء وفرشاة ولا قدرة لهم على التجهز بـ «علبة البويا» التي نعرفها على أرصفة بيروت مصنعة بتصميم لافت ومزركشة بالنحاس اللماع أحيانا. ويكثر شباب آخرون ممن يُسمون ب«صيارفة الفانات» يرتزقون في محطات النقل من تبديل وحدة العملة الورقية، المسمّاة برّ، مقابل 95 % من قيمتها قطعا معدنية يعرضونها على ورقة صحيفة تلبية لحاجة معاوني السائقين في تسهيل محاسباتهم السريعة مع الركاب عند جمع التعرفة منهم. هذه التعرفة التي لا تزيد عادة عن بر وبعض بر عندما يكون العنوان الذي يقصده الراكب لا يبعد أكثر من 5 كيلومترات. وتُلاحظ على جوانب الأزقة والساحات الفرعية صفوف من النساء اللواتي يرتزقن من بيع كيلوات محدودة من الخضار أو من الحطب أو من زبل البقر المجفف للوقود. واذا كانت التوجهات النيوليبرالية للحكومة الحالية برئاسة ملاسي زيناوي قد خلقت مناخا جاذبا للاستثمارات الخارجية ذات الكثافة العالية في التكنولوجيا ورأس المال في مجالات الصناعات التحويلية والبناء والزراعات الراسمالية المتطورة واستفادت من رخص بالغ في الأجور واسعار الأراضي، الا ان طبيعة هذه الاستثمارات تبقى عاجزة عن استيعاب النزوح الكاسح عن قطاع الزراعة الذي يشغل حوالى 85% من القوى العاملة في البلاد وتتعرض منتجاته الرئيسية للمضاربات في البورصات الدولية وفي الوقت الذي تنسحب فيه الدولة من التزاماتها في مجالات الرعاية الاجتماعية.
وفي مواجهة هذا التدهور الاقتصادي والاجتماعي يُلاحظ أن الجماعات الأثيوبية، ولا سيّما المسيحية منها، تتميّز في مواجهة الفقر عن طريق تصدير العمالة النسائية بخلاف الجماعات السودانية التي تميل غالبا إلى تصدير العمالة الرجالية. وتشير المعطيات الإحصائية التي حصلنا عليها من وزارة العمل في أديس أبابا إلى أن العمال الذين تـم تسفيرهم إلى الخارج خلال السنوات الثلاث 1998 ـ 2000 وصل عددهم إلى 71.000 عامل وعاملة بينهم 68.090 عاملة توجه منهن إلى البلاد العربية (الخليج، لبنان، سوريا واليمن) حوالى 68.000 عاملة كان نصيب لبنان منهن خلال السنوات الثلاث المشار إليها ما نسبته 49 % أي بمتوسط سنوي يقارب 11 ألف عاملة. وهذا ما يشير إلى إقبال مميز على السوق اللبنانية بالرغم من الإشاعات حول انتحار بعض العاملات الأثيوبيات بسبب صعوبات التكيُّف مع بعض العائلات المستخدِمة أو بفعل التورط الشخصي مباشرة أو من خلال مكاتب الاستخدام اللبنانية بتشغيلهن بالساعة خارج عقد العمل الذي استقدمن بموجبه. وهذا ما يُؤدي أحيانا الى حجز الأشخاص الذين استقدمن على اسمائهم لجوازات سفرهن حتى بعد مضي مدة عقدهن. وفي هذه التورطات تجد الكثير من العاملات، المتعلمات وأشباه الأميات، أمام مشكلات لا تُلزم لا السفارة الإثيوبية ولا المكتب المسؤول في بيروت لمدة ثلاثة أشهر فقط عن استقدامهن ولا حتى وكالات التسفير الأثيوبية المتعاقدة مع مكاتب بيروت، بحل المشكلات التي يقعن فيها بفعل إغراءات الاستخدام غير المشروعة التي ينزلقن إليها. وتتفاقم مشكلات الخادمات الموفدات عن طريق دلاّلات أثيوبيات لا يرتبطن بوكالات تسفير مرخصة ومسؤولة ولو لمدة ثلاثة أشهر أمام وزارة العمل الأثيوبية.
في التاريخ المتوتر للجوار العربي ـ الأثيوبي
في اللقاءات الأولى مع متنورين في الإعلام والجامعة تجد نفسك مشدوداً معهم إلى مراجعة تاريخ طويل من شواهد التصادم الديني لمملكة الاتنيات الأثيوبية مع بلاد العرب المجاوره. تصادم زاد مع ترسخ دوله الخلافة خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين في الجزيرة العربية على الضفة الشرقية للبحر الأحمر. هذه الدولة التي أخذت تتحكم بقوافل التجارة إلى الهند عبر باب المندب، وراحت تهدد مملكة أكسيوم التيغرية التي عاشت مجدها بعد القرون الثمانية التي أعقبت ميلاد السيد المسيح.
والجدير بالذكر أن الإتنيات الأفريقية في هذه الدولة ومحيطها كانت سبّاقة إلى اعتناق الديانات السماوية الثلاث من خلال الاحتكاك المباشر مع مناشئها حول البحر الأحمر وعن غير طريق الفتوحات ومنها خاصة المسيحية التي تبنتها الاتنيتان التيغرية والأمهرية منذ منتصف القرن الرابع الميلادي. وبعد ذلك وافق ملك تيغراي النجاشي على دخول المهاجرين المسلمين من الصحابة إليهـا عام 615 م وكانوا مزودين برسالة من النبي محمد هرباً من اضطهاد القريشيين في مطلع الدعوة إلى الإسلام. وما لبث هذا الدين ان انتشر مع قوافل التجارة العابرة إلى الهند وإلى شرق افريقيا. وكان قد سهّل من توسعه عميقاً في بلاد الحبشة تكيفه مع الثقافات التقليدية لدى قبائل جنوب الصحراء الأفريقية ولا سيما مع ما يتعلق في ُسننه بالشرائع الاجتماعية في الزواج والعائلة، هذا بالإضافة إلى جاذبية سلوكيات التقوى والمساواة في أخلاقيات الطرق الصوفية التي حملها التجار المسلمون معهم إليها، ولم يكن بعضها غريباً عن الأمهريين المسيحيين في شرق أثيوبيا بحكم الجوار مع اليمن والصومال فكانت الشعائر الإسلامية أقرب إليهم من الشعائر الكنسية الأوروبية الوافدة لاحقا مع المرسلين ومع الاستعمار(1). إلاّ أن هذا التهادن بين الدول المتجاورة المختلفة دينيا لم يطل وتوالت بعده الغزوات المتبادلة على مناطق ومدن الطرفين([[). واستمر التوتر بين الجوار الإسلامي والمملكة القبطية التي وصلت إحدى غزواتها إلى مكة وشهدت في داخلها أيضا غزوات بين سلطنات إسلامية (سلطنة إيفات وسلطنة بالي) في مواجهات مع المملكة الأمهرية المسيحية. وتواصل التوتر مع الدولة الاسلامية خلال التعبئة المواكبة للحملات الصليبية وبعدها الى مطلع القرن السادس عشر (عام 1615) عندما طلبت هيلانة، ملكة الحبشة، إلى عمانوئيل ملك البرتغال أن ينصرها على جوارها الإسلامي تماشياً مع طموحاته الاستعمارية في تأمين طرق وصول أسطوله إلى أسواق وثروات الهند.
([) ـ أُخذت المعطيات حول هذه المستويات من جداول 1و3و5و10و12و13و21و27و28 في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الصادر عن عامي 2007و2880.
([[) ـ يجدر التذكير بأن أهمية الغزوات المتبادلة بين الممالك العربية والأثيوبية شكلت في عهد المماليك الإيحاء للرواية العربية الشعبية الأسطورية المشهودة عن الملك الحميري سيف بن ذي يزن، وهو ابن آدم من الجن، الذي تمكن من طرد جيش مملكة أكسوم في الحبشة آنذاك من اليمن وتوج ملكاً عليها بعد أن استعان بالنعمان بن المنذر لإقناع كسرى أنو شروان ملك الفرس لينصره في تحرير بلاده من الأحباش وكان قد توجه من قبل إلى قيصر الروم طالباً الاستعانة به لتحرير بلاده فرفض طلبه بحجة أن الأحباش هم مسيحيون مثلهم إلاّ أن كسرى طمع بالولاية على اليمن وقتل سيف بن ذي يزن وأنهى مملكة الحميريين.
1 ـ راجع نص I.M.LEWIS حول «الحدود القصوى للإسلام في افريقيا وآسيا»، منشور في مجلة عالم المعرفة الصادر تحت إشراف العالم شاخت وبوزون تحت عنوان تراث الإسلام، عام 1978 ، القسم الأول ، ص.ص. 161 ـ 173
÷ كتب البحث بعد زيارة إلى أثيوبيا