ازدحام في الضاحية الجنوبية. دائم. ضوضاؤه تضج في أعصاب الزائر، ما لم ينتبه إلى أن دورة حياة كاملة تغلي هنا، في «مدينة» واسعة ممتدة مكتظة بسكانها وباختلافات مناطقها وأحيائها وشوارعها.
تموز العام 2006 صار بعيداً عن الضاحية، شكلاً على الأقل. الآثار المتفرقة للحرب، في الأبنية التي سوتها الحرب بالأرض في الصفير وحي ماضي ومعوض وبئر العبد وغيرها، هي آثار لأبنية جديدة يختلط توقيع «وعد» عليها مع توقيع مقاولين تُحجز شقق أبنيتهم مع حفر الأساسات.
الواحد إن أراد رؤية الحرب، يذهب إلى حيث عملت إسرائيل على دك الحياة وفق خريطة قلعت فيها الأبنية واحدا بعد الآخر، فلم ينج إلا المبنى الذي لم يسعف وقت الحرب تلك الدولة بتدميره. والكلام هو عن جزء من حارة حريك، كان معروفاً باسم المربع الأمني، وهو مجموعة من الأبنية كانت تحوي قيادة «حزب الله»، وفيها أيضا أناس يعيشون حياة عادية. مربع أمني كان له محيط مفتوح على بقية الضاحية، وقد أصابه ما أصاب المربع من فتك فاق الخيال.
النقاش بين أم سمير مكي، وأحمد لوباني مليء بالمرح. هما جالسان في محل لوباني لتركيب وبيع العطور، في أسفل مبنى يقع في شارع السيد عباس الموسوي، النازل من حارة حريك إلى بئر العبد، وعند أحد طرفيه كان منزل السيد محمد حسين فضل الله، وعند الطرف الآخر امتدت قيادة حزب الله.
سكان المبنى اعتمدوا على أنفسهم في إعادة بنائه، ولم يلزّموا المشروع لـ«وعد». الحوار الضاحك يبدأ من أم سمير التي ما زالت تقطن وعائلتها في بيت مستأجر منذ انتهت الحرب. وحين «يضيق خلقها»، تأتي «لتفشه» في الحي الذي تترقب عودتها إليه وترى أن الموعد تأخر. لا تجد غير جارها الذي أعاد افتتاح محله محلين، واحد للعطورات وثان، فوقه، صالون حلاقة، بعدما صار علو المحال الجديدة في المبنى يناهز الأمتار الستة، مما يسمح بتقسيمهما. هكذا ستصير كل المحال الجديدة.
لوباني يطلب منا العودة بعد شهر واحد لنرى أن المبنى سيكون جاهزاً للسكن. أم سمير تراهن على أن الوقت لن يكفي. بتشارط؟ تقول له. إيه، يجيب متحدياً. «من شقة لشقة؟» يرتفع صوتها بالسؤال ويضحكان.
رهان كهذا يبدو مستخرجاً من البيئة الطبيعية للمحيط. هذه ورشة كبيرة ممتدة من الأبنية التي ما زالت بحجارتها غير المورقة تتخللها تلك الابنية الناجية المرممة، والقليلة التي سلمتها «وعد».
بعد ثلاث سنوات على الكارثة التي حلت هنا، عادت المعالم الأولية للمنطقة إليها. من كان يعرفها قبلاً يمكنه أن يطابق بين الجديد وما كان في الذاكرة. غير أن الحياة لم ترجع بعد، ما دامت الورشة الكبرى قائمة.
لوباني يصف شارع الموسوي بالشريان التجاري الأهم في الضاحية قبل الحرب. مؤسسات وتعاونية ومحال تجارية متنوعة ومركز بعيادات كثيرة. الورشة القائمة، بشاحناتها وغبارها، وسكانها البعيدين عنها، لن تسمح الآن بعودة الازدهار، لكن الضاحية التي تتوسع عند أطرافها، لن تبخل على هذا الوسط الحيوي حين يعود المكان جديداً. لوباني يقول إن تجارته، كما صالون الحلاقة، يعملان جيدا. وهو رجل مسيّس ومناصر بشدة لحزب الله، يقول انه متفائل. إصرار يختلط فيه الأمل الشخصي بالموقف السياسي.
عودة المحال، صناعية وتجارية صغيرة، ليست خجولة. حين تتأمن مستلزما الحد الأدنى لأي محل، يُفتح.
بعدة قليلة جلبها معه من الجنوب بعدما خسر عدته الأصلية كلها، أعاد الميكانيكي عباس أسد فرحات افتتاح مشغله. يتكل على زبائن قدامى قل عددهم بعدما خلا الحي المتفرع عن شارع الموسوي من معظمهم، ويتكل على التعامل مع زبائن جدد. محل بإيجار رخيص يبدو أفضل من محال أخرى بإيجارات تبدو خيالية بالنسبة للرجل. ظاهرة غلاء الإيجارات تعم الضاحية، غير أن صغر المحل، وموقعه المتواري في زقاق فرعي صغير، يجعل إيجاره رخيصاً.
إذ نخرج من الزقاق، تختلف الحكاية. شارع الشيخ راغب حرب يتقاطع مع شارع الموسوي في الجغرافيا والمصير. شهد الدمار نفسه. هنا، يقول الشاب الجالس في متجر مواد استهلاكية كبير إن الفارق لا يقاس بين قبل وبعد. هو يعتمد في تجارته على زبائنه القدامى، يعودون إليه لاعتيادهم على اللحم الذي يبيعه. غير ذلك؟ ليس كثيراً.
نهاية شارع حرب شبه الترابية توصل إلى الشارع العريض حيث مبنى المنار. في هذه النهاية مبنى جديد في أسفله محلان، واحد لبيع الثياب وآخر للإكسسوارات. «جاسبر» اسم لحجر كريم، تشرح نادرة شربو، مستثمرة المكان بإيجار يبلغ خمسمئة دولار في الشهر، منذ بداية العام تقريباً.
نادرة مشت في الضاحية الجنوبية باحثة عن محال. وفي يوم واحد حجزت ثلاثة منها. واحد في الشياح وآخر في الرويس أما الثالث فهذا. ألم تخاطر؟ لا، تقول. الشارع له ماض ممتاز، ومستقبله سيكون ممتازاً، ولا بأس بحاضره. أحياناً تُقطع الطريق بسبب الأشغال، فيخف العمل كثيراً. لكن في أحيان أخرى، وعلى الرغم من غبار الأعمال فيه، فإنه طريق مرور لسيارات تقف وتشتري.
تضع نادرة في اعتبارها أن الوضع سيتغير كثيراً. تعطي لتجارتها سنة قبل أن تعود الحياة إلى ما كانت عليه. ونحن من بيئة تتحمل مهما كانت المصاعب كبيرة. أنا شخصياً تعودت على التحمل.
مرّ الأصعب، تقول نادرة.
السيدة المتفائلة تعمل في طرف الورشة، في مبنى يدل إلى ما سيكون عليه الحال الآتي لهذا الجزء الذي اقتلع من حارة حريك ومن الضاحية الجنوبية.
الخروج من المكان يأخذ إلى ضجة أخرى، مختلفة، هي ضجة الضاحية السابحة في حياتها الكثيفة. تختفي الحرب. لقد مرت ثلاث سنوات. الحياة لا تتوقف.
اثنين | ثلاثاء | أربعاء | خميس | جمعة | سبت | أحد |
---|---|---|---|---|---|---|
31 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 1 | 2 | 3 | 4 |