غيورا آيلاند عن الحرب التي كانت والحرب التي ستكون والنتائج التي لن تتغير

قديم وترجمة حلمي موسى:
عقد مركز دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب ندوة موسعة في الثاني عشر من تموز حول حرب لبنان الثانية في الذكرى الثالثة لها. وقد تحدّث في الندوة, إضافة إلى المقدم, الدكتور غبريال سيبوني كل من رئيس المركز الدكتور عوديد عيران ورئيس مركز ديان لدراسات الشرق الأوسط البروفيسور إيال زيسر والجنرالات غيورا آيلاند, وموشيه كابلينسكي ودان حلوتس.
ومعلوم أن آيلاند تولى في آخر مناصبه مهمة رئاسة مجلس الأمن القومي في ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية وخدم في هيئة الأركان العامة رئيساً لشعبتي العمليات والتخطيط. وقد سبق له أن تقلب في المناصب القيادية الأدنى من قيادة الكتائب إلى قيادة الألوية والفرق. وهو يعمل اليوم باحثاً كبيراً في مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي.
وتتسم محاضرة آيلاند بأنها تجمع بين خبرته العسكرية والبحثية وتتعامل مع دروس الماضي والتطلعات للمستقبل على صعيد حروب إسرائيل المقبلة. ولا ريب في أن المحاضرة تظهر جانباً من طريقة تفكير جزء من الجهات الاستشارية المهمة التي تؤثر على العقل القيادي الإسرائيلي على صعيديه العسكري والسياسي.
تجدر الإشارة إلى أن «السفير» كانت ترجمت ونشرت يوم الاثنين الماضي نص تقديم الدكتور سيبوني للندوة ونص محاضرة الدكتور عيران حول الأداء السياسي لإسرائيل في الحرب، خصوصاً بشأن القرار 1701 أو ما يسمى بـ«المخرج السياسي». ورغم أهمية محاضرة آيلاند, فإن الأنظار اتجهت نحو محاضرة رئيس الأركان في زمن الحرب الجنرال دان حلوتس التي أقر فيها بوقوع أخطاء، لكنه شدد على أنه لو تكرر الوضع الذي ساد في الثاني عشر من تموز 2006 لأوصى الحكومة بالتصرف على النحو الذي كان حينذاك.
وفي كل الأحوال فإن نشر نصوص هذه الندوة يثبت من جهة أن إسرائيل الرسمية لم تبرأ بعد من الجراحات التي أصابتها في ميدان المعركة. صحيح أن البعض استخدم تعبير أن الحرب ونتائجها كانت «صرخة إيقاظ» لإسرائيل، إلا أن آيلاند يشدد على أن التحسينات التي طرأت على أداء إسرائيل بعد الحرب لا تغير من نتائج أي حرب مقبلة شيئاً لأنها تتعادل مع التحسينات التي طرأت على أداء وتسلح «حزب الله». ولهذا ينطلق من أن التغيير المطلوب إسرائيلياً لتغيير نتائج أي حرب مقبلة هو اعتبار لبنان بأسره عدواً وعدم حصر المعركة بـ«حزب الله» أو بمجتمعه المناصر.
وفي كل الأحوال فإن المناقشات التي دارت في الندوة تبين استمرار الخلاف في إسرائيل حول الأداء العسكري والسياسي في حينه واستمرار الخلاف حول ما ينبغي فعله لاحقاً. وفي كل الأحوال فإنها فرصة للإطلالة على الطريقة التي يفكر بها الصف الأول من الإسرائيليين الذين يقدّمون خبرتهم لصناع القرار.
في الآتي النص الكامل لمحاضرة آيلاند مع بعض الاختصارات لأسباب تحريرية:
لن أصف هنا ما وقع في الحرب, ولن أعدد كل مواضع الخلل التي كانت أو لم تكن فيها, فقسم منها تم وصفه بإسهاب في الكتب التي نشرت وفي تقرير لجنة فينوغراد وقسم آخر ربما سيتطرق إليه المتحدثون من بعدي. وبودي الحديث هنا عن سبع نقاط هي بمثابة نوع من الاستخلاصات ليس فقط من هذه الحرب, وإنما, من وجهة نظري, من ثلاثة أحداث مركزية وقعت في السنوات الأخيرة, وهي أحداث يمكن المقارنة بينها, وهي السور الواقي العام 2002 في الضفة الغربية, حرب لبنان الثانية وعملية «الرصاص المسكوب».... وتنقسم هذه النقاط التي أتحدث عنها إلى ست نقاط تتعلق بالماضي والحاضر، ولكنها ذات آثار على المستقبل, أما النقطة السابعة فإنني أدعي بأنني سأقدّر فيها ما سيحدث إذا نشبت في الغد حرب لبنان الثالثة, وبالتالي ما الذي يحسن بنا أن نفعله.
إذن ما هي النقاط السبع؟
الأمر الأول الذي ينبغي فهمه في الحروب من النوع الذي نشهده في القرن الحادي والعشرين, وأقول ذلك بعمومية شديدة, لأن الأمر يصح على منطقتنا لكنه أيضاً يصحّ على أماكن أخرى, مثل العراق وأفغانستان وما شابه, هو أن هناك فجوة بنيوية وكبيرة بين التوقعات والقدرات. ... وتتعلق هذه الفجوة عموماً بأربع نقاط: النقطة الأولى, هي مدة المعركة. وهناك افتراض بأنه لأننا أقوى من الطرف الثاني, وبالمقارنة مع حروبنا السابقة التي هزمنا فيها كل ذلك القدر من الجيوش خلال ستة أيام العام 1967، فلماذا ينبغي أن يكون الأمر أشد تعقيداً ولا نستطيع إنهاء معركة كهذه في وقت قصير وبشكل واضح....
الأمر الثاني هو أن هذه ليست حرباً حقيقية, فأنت بالتأكيد أقوى من العدو ولذلك لا ينبغي أن تقع في صفوفنا إصابات كثيرة, لأنه من الناحية الظاهرية يمكن فعل كل شيء من بعيد, ويمكن فعله بسلاح دقيق, ويمكن فعله من دون تعريض قواتنا للخطر, ولذلك يمكن شن حرب مترفة نستطيع فيها ضربهم ولا يستطيعون ضربنا.
والتوقع الثالث هو: أننا نحارب الأشرار, والأشرار في هذه الحالة هم حزب الله, وفي حالة أخرى هم حماس، ولذلك فالأمر على ما يرام. يمكن قتلهم, ولكن لا نريد بحال من الأحوال احتمال وضع نشاهد فيه على شاشات التلفزيون صور نساء وأطفال قتلى. ولذلك فإن التوقع الثالث هو اضربوا الأشرار، ولكن لا تمسوا من لا ينبغي المساس بهم.
والأمر الرابع هو: إذا كانت هذه حرب فكما الحال في الحروب نريد أن نرى نصراً وراء نصر واضح نرى فيه الطرف الثاني يستسلم بوضوح ونعرف بجلاء من انتصر ومن هزم.
كل هذه التوقعات الأربعة طبيعية جداً، ولكن يصعب تحقيقها بسبب أمور تميز هذا النوع من القتال لن ندخل فيها, ولكن أبداً ستبقى توقعات كهذه في بداية معركة كهذه. وبقدر ما تبدو المعركة معركة خيار, من نوع عملية مبادر إليها من جانبنا, والمستوى السياسي يحاول فيها تجنيد الدعم للعملية فإنه يطلق وعوداً ويرفع سقف التوقعات بأن النتائج ستكون مطابقة، ولذلك يجدر بكم تأييدنا، لأننا ندير عملاً سيكون ناجحاً. وبقدر ما يرتفع سقف التوقعات في البداية فإنه بعد ذلك تغدو الفجوة أكبر فأكبر بين ما يحدث وما ظننا أنه سيحدث.
لقد قلت إن هذه الفجوة طبيعية، وهي تحدث عندنا وفي أماكن أخرى. وربما أن النقطة الخاصة بإسرائيل هي الهشاشة التي بنيت فيها المنظومات عندنا وكم يسهل تصديعها في لحظة ظهور هذه الفجوات. وإحدى مشاكل حرب لبنان الثانية هي أنها خلقت فجوات سريعة نسبياً وخطيرة جداً على ثلاثة مستويات: الأول داخل الجيش, بين المراتب المختلفة في الجيش. فالحرب لم تكن قد انتهت حين بدأت الاتهامات التي أفترض أننا سوف نسمع عن قسم منها في الشهادات التي ستقدم هنا لاحقاً. وهذا من نوع الأمور التي للجيش الإسرائيلي في بنيته الخاصة, وتحديداً في قواته الاحتياطية, فإن صدعاً كهذا يغدو بالغ الإشكالية. ...
والفجوة الثانية هي فجوة بين الجيش والمدنيين. ومرة أخرى في قتال من هذا النوع يجري فقط في الجبهة الخلفية, وعندما يكون الوضع ينطوي على فجوة يستعرض فيها الجيش نجاحاته في الهجمات الدقيقة لسلاح الجو على أهداف هنا وهناك فيما أن مئات الآلاف من الإسرائيليين يقيمون أسابيع وراء أسابيع في الملاجئ نشأ إحباط كبير جداً لا يمكن للجمهور في ظله تفهم استمرار القتال.
والفجوة الثالثة هي, بداهة, فجوة تحدث على وجه العموم بأسرع من الأخريات, بين المستوى السياسي والمستوى العسكري. وقد رأينا مثلها ليس فقط في هذه الحرب وإنما في العام 1973 وفي العام 1982، ولكنه حدث هنا أيضاً. ولذلك فإن أول نقطة يجب إدراكها هي الفجوة القائمة بين التوقعات والقدرات. ...
والنقطة الثانية تبدو ظاهرياً بديهية، ولكنها في الواقع أشد تعقيداً مما تبدو, خاصة عند الحديث فيها لدى المستوى الأعلى, هي أهمية تحديد الهدف. وفي العموم فإن في الخطة العسكرية ثلاث كلمات تعتبر الكلمات الأساسية في أي خطة عسكرية وفي أي أمر تنفيذي لعملية عسكرية. وأول هذه الكلمات هي, الهدف, الثانية هي, المهمة, والثالثة هي الأسلوب.
والهدف هو الجواب عن السؤال: ما الذي نريد تحقيقه؟ من أجل ماذا نقوم بما نفعله؟
والمهمة هي الردّ على السؤال: ماذا ينبغي أن نفعل؟ وماذا نفعل كي نحقق الهدف؟
والأسلوب هو الجواب على السؤال: كيف ينبغي أن نفعل؟
وهذا الأمر أساسي جداً وبسيط والناس تنال علامات على مدى التناغم بين الهدف والمهة والأسلوب في كل دورة ضباط من المستويات الأدنى إلى الأعلى وفي كل مكان. وبالعموم عندما يدور الحديث عن مستويات عملانية حتى العالية منها فإنه ليس معقداً أن تخلق التكامل بين الهدف والمهمة والأسلوب.
ويصعب علينا جداً التوصل إلى نتيجة كهذه عندما يدور الحديث عن صيرورة يكون فيها القسم الأعلى, أي الهدف, أو ما الذي نريد تحقيقه, وهو بطبيعته موضوع سياسي واستراتيجي, حيث يجب أن يرتبط بالمهمة التي هي ما على الجيش فعله في نهاية المطاف وبالأسلوب والكيفية التي يفعل بها ذلك. وعندما لا يكون هذا الأمر واضحاً, فإنه لا يتم استجلاؤه بالشكل السليم, وهو ما لم يوضح بالشكل المطلوب كما في حرب لبنان الثانية, وبعد قليل سأقارن ولكن ليس بشكل كلي بينها وبين عملية الرصاص المسكوب, تنشأ مشاكل. ...
وإذا عدنا إلى جلسة الحكومة التي عقدت في الثاني عشر من تموز والتي بحثت وقررت الخروج لحرب لبنان الثانية, فإنها لم تحدد الهدف بالشكل الصائب. وعملياً فإن المداولات الحقيقية التي كان ينبغي إجراؤها كان يجب فعلها على الشكل التالي: بوقوع الحادث تصل كل التقارير المفصلة ومعظمها غير ذات شأن لهذه الجلسة حول ما حدث حقاً, وتصل تقارير استخبارية هي في الغالب طويلة ومفصلة وليست بالضرورة مفيدة, ولكن كان ينبغي الانشغال أصلاً بالمسألة الحقيقية وهي الهدف. والهدف في حالة كهذه يمكن أن يكون على الأقل اثنين مختلفين كلياً أحدهما عن الآخر، ولذلك من المهم جداً تحديد ما الذي نريده.
إذا كان الهدف هو, وهذا أول احتمال, أن نقول وقع حادث, وهو حادث قاس ومؤلم وإشكالي من ناحيتنا, ولذلك فإننا سننفذ عملية ثأرية قوية في لبنان. والعملية الثأرية هي هنا استخدام قوي لسلاح الجو طوال يومين أو ثلاثة. والثمن الذي يدفعه حزب الله في المرحلة الأولى يكون كبيراً، لأنه من اليوم الأول كان هناك تحديد جيد لأهداف يمكن ضربها. والضربة القوية يمكن أن تصيب أيضاً, وليس فقط, الدولة اللبنانية التي توفر الرعاية لحزب الله. ...
صحيح أن هذا بحد ذاته لم يعد المخطوفين. وصحيح أن هذا لا يدمر حزب الله. ولكن عملية كهذه مؤهلة لترميم قدرة إسرائيل الردعية, والثمن الذي يدفعه الطرف الثاني باهظ جداً, وهذا سيخلق من جديد قواعد لعب من الأحسن لنا اللعب وفقها على الحدود مع لبنان. صحيح أن الإنجاز يكون محدوداً. لأن الهدف كان محدوداً جداً. ولكن الثمن كان أقل والمخاطرة أقل. هذه نظرة محتملة أولى.
وهناك نظرة محتملة أخرى ترى أن المشكلة ليست عملية اختطاف الجنود, ليس الحادث وليس المخطوفين. المشكلة الأساسية هي وجود حزب الله كتنظيم كبير وقوي ينتشر على حدودنا الشمالية ويهدّدنا في كل يوم. ولذلك فإن الهدف يجب أن يكون بعيد المدى أكثر وضرب قدرات حزب الله على الأقل في منطقة الجنوب. وإذا كان هذا هو الهدف, فإننا بحاجة إلى عملية من نوع آخر. والنوع الآخر يعني أننا بحاجة من اليوم الأول لتجنيد ثلاثة أو أربعة فرق احتياطية وينبغي تنفيذ عمل لا يستمر يومين أو ثلاثة وإنما يستمر أربعة إلى ستة أسابيع, يكون مطلوباً فيه وربما بالضرورة، تنفيذ عملية برية كبيرة نسبياً جنوبي خط الليطاني. ...
ولذلك كان ينبغي أن يجري النقاش في الحكومة حول السؤال: ماذا نريد أن نحقق عندما نبدأ العملية؟ وبالمناسبة عدا هاتين النظرتين كان بالوسع أن يكون إلى جانبهما هدفان أو نظرتان أخريان كان ينبغي البحث فيهما. فعندما تقرر أن خيارك هو الأول يعني أن الثاني ليس خيارك، وكذلك ليس الثالث والرابع. وعندما لا يجري نقاش كهذا فإن النتيجة هي أن ما يقررونه يبدو على الأقل كأنه قرار يقول: هيا نبدأ قصف لبنان ولنر بعدها ما سيحدث.
وهكذا عندما يخرجون من الغرفة فإن الهدف لا يكون واضحاً. وعندما لا يكون الهدف واضحا لدى المستوى الاستراتيجي فإن من الصعب جداً ترجمته بعد ذلك إلى أهداف جزئية تنزل من مستوى رئيس الأركان إلى مستوى قيادة الجبهة, ثم إلى مستوى قيادة الفرقة. لأن السؤال طوال الوقت حول ما نريد تحقيقه ليس واضحاً بما فيه الكفاية, فيما أن هذه هي الجملة التي ينبغي أن تكون الأشد جلاء في أي أمر تنفيذ عملية.
ولهذا فإن مقوم تحديد الهدف بالغ الأهمية جداً وإشكالي جداً وهو إحدى نقاط الإخفاق في معركة لبنان. وعليكم أن لا تظنوا أن الأمر في عملية «الرصاص المسكوب» كان أفضل بكثير. فعندما خرجوا لعملية «الرصاص المسكوب» جرى تنفيذ عملية رائعة لسلاح الجو, ولكن لم يكن واضحاً بعد ما الذي يريدون تحقيقه. والتحديد الذي أعطي في المستوى السياسي كان نوعاً من القول بأن المطلوب خلق ظروف أمنية أفضل. ...

والآن ثمة بعد آخر: عندما تجتمع حكومة فإنها بذلك تتحدث للجيش، ولكن ينبغي عليها كذلك أن تتحدث للجمهور. وينبغي قول شيء للجمهور. وبحق يقولون للجمهور جملاً عمومية, لأنهم ليسوا بالضرورة مضطرين لتوضيح الخطة العسكرية بدقة. ولهذا هناك نوع من رواية تعطى للجمهور وهي عموماً قرار الحكومة. ومن الخطأ اعتبار أن قرار الحكومة الذي يتحدث عن مواضيع عمومية للجمهور هو نفسه القرار حول الهدف الذي يحددونه للجيش من أجل إعداد خططه العسكرية. وهذا أمر لم يكن واضحاً, كما أسلفت, في حرب لبنان الثانية, لم يكن واضحاً في «الرصاص المسكوب» ولم أرد ذكر السور الواقي. ففي عملية السور الواقي أيضاً جرى نقاش حاد جداً وفي حينه أجبر الجيش المستوى السياسي على البحث في مسألة المطلوب تحقيقه.
وكما تذكرون فإن العملية التخريبية في فندق بارك في نيسان 2002 نفذت على يد حماس, وكان هناك من قالوا إنه ينبغي شن حرب لا هوادة فيها ضد حماس. ولكن الجيش حينها فكّر أن قدرته على محاربة حماس عبر تجاهل وجود السلطة الفلسطينية, ومن دون المساس بالسلطة الفلسطينية, ومن دون تنفيذ عمليات تؤدي حتى إلى انهيار السلطة الفلسطينية, أمر غير ممكن. ولهذا سلطت الأضواء على السؤال، وقرر الجيش أننا تحديدا نخوض حربا ليست حربا شاملة وإنما حرب حقيقية ضد السلطة الفلسطينية، خصوصا ضد رموزها السلطوية من اقتحام المقاطعة من جهة وحتى دخول معسكرات اللاجئين من جهة أخرى. وعلى الأقل فإنه في عملية السور الواقي جرى تشديد النقاش في بداية العملية ولم يتزايد في أيام لاحقة.
والنقطة الثالثة هي كيف أن المستويين السياسي والعسكري يديران فيما بينهما معركة من هذا النوع. وبديهي أن الأمور ينبغي أن تحدث في المراحل التي تسبق العملية. وما يتم إهماله على وجه العموم, هو مقدار معرفة المستوى السياسي لقدرات الجيش. ثمة ميل مبالغ فيه لدى المستوى السياسي الأعلى, وخصوصا لمن يطلعون على التقارير الاستخبارية, لمعرفة ما يجري في الطرف الآخر. وهم يبدون كمن يقرأون تقارير استخبارية خاماً من دون فهم عميق للأهمية. فالأهمية قائمة لكنها قد تكون ضارة ولكن الأهم هو ان نعرف قدراتنا نحن. قدرات الجيش. وإذا شئت استخدام تعابير عسكرية, عليهم التعرف على تناسب القوى. ما نجيد نحن فعله, وما يجيد الطرف الآخر فعله.
وعندما لا يمنح هذا الأمر الاهتمام الكافي, ليس فقط من جانب رئيس الحكومة وإنما في الحالة القائمة, من جانب المستوى الرسمي في دولة إسرائيل الذي يتخذ القرارات. فالسلطة التنفيذية هنا هي الحكومة بأسرها أو على الأقل المجلس الوزاري المصغر. وإذا لم يكن هؤلاء يعرفون فإن الفجوة الكبيرة التي تنشأ هنا ليس فقط بين التوقعات والتنفيذ، وإنما أيضاً في فهم ما يمكن وما لا يمكن تحقيقه.
لقد تحدث كثيرون عن هذه المسألة في إشارتهم إلى حرب يوم الغفران. ولكن بشأن حرب لبنان الثانية ثمة أمر واحد وهو بقدر ما لم يؤخذ بالحسبان عندما خرجوا للعملية. ويتحدثون عن موضوع مغاير تماماً وهو ميزانية الجيش الإسرائيلي. لماذا؟ عندما أجرى الجيش تقويم الوضع متعدد السنوات في العام 2003 توصل لاستنتاج بأنه من أجل توفير رد معقول وكاف على كل ما يقتضيه الأمر فإنه بحاجة إلى مبلغ محدد. وعرض ذلك على الحكومة ونال تصديقها بشكل مبدئي. وفي السنوات من 2003-2006 طرأ تقليص سنوي في ميزانية الدفاع بمعدل مليار إلى مليارين فيما يتعلق بتحقيق تلك الغاية. وكانت الذروة في أيار 2006 قبل شهرين من نشوب الحرب حين جرى في ذلك العام تقليص بحوالى نصف مليار شيكل. وكان من الواجب على الجيش, والحال هذه, أن يقرر أن يشد الحزام في جهة ويرخيه في جهة أخرى.
ومن كل المواضيع فإن الجيش قال بنوع معين من النزاهة أن النقطة التي يستطيع التوفير فيها هي مستوى الجاهزية. فماذا يعني مستوى الجاهزية؟ إن مستوى الجاهزية هو مستوى التدريب عندي وهو مستوى امتلاء المخازن عندي. وبقدر ما فإن هذا هو مستوى جاهزيتي. ...
وعندما اجتمعت الحكومة فإنها اجتمعت في الثاني عشر من تموز. وإلى أن فهمت ذلك وهي لم تفهم الوضع حتى النهاية. وعملياً فإنها بخروجها للحرب فاجأت نفسها. أو فاجأت الجيش بالنسبة لمستوى جاهزيته لمواجهة هذا الوضع. لقد سبق لنا أن كنا في وضع مختلف واتخذنا قراراً مختلفاً. وقد حدث ذلك في صيف العام 1981. في ذلك الوقت اتخذت الحكومة قراراً استراتيجياً وأحدثت تمييزاً بين المستويين التكتيكي والاستراتيجي. وعلى المستوى الاستراتيجي قالت إنه ينبغي شن حرب ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان من أجل تحقيق أهداف هي كذا وكذا. ولكن هذا كان قراراً استراتيجياً يفيد بأننا تكتيكياً لن نفعل ذلك الآن وإنما سنفعله في وقت لاحق. أو أننا سوف ننتظر الفرصة المناسبة.
وهكذا فإنه طوال عام كامل من صيف العام 1981 وإلى صيف العام 1982 استعد الجيش بشكل لم يسبق له مثيل للحرب. وكنت حينها قائداً لكتيبة وأتذكر إلى أي مستوى تدريبات نزلنا للتدرب على نماذج وتمارين وجاهزية ملموسة لعملية تم التخطيط لها قبل عام من تنفيذها. وكان القرار الاستراتيجي قد اتخذ مسبقاً.
وفي الثاني عشر من تموز قررت الحكومة للجيش أن يخرج للحرب فوراً, وبقدر ما فإنها فاجأت الجيش بسبب عدم تناسب جاهزيته ولو جزئياً لعملية من هذا النوع. ولكن إذا واصلنا الحديث عن إدارة المعركة في الطابق بين المستوى السياسي والمستوى العسكري فإن إحدى الجمل المذهلة التي أسمعت خلال الحرب من المستوى الأعلى هي الجملة التي قالها رئيس الحكومة, رداً على سؤال بعد أسبوعين من الحرب: «لماذا لم تترك الجيش ينفذ عملية برية؟». قال: هل أنني لم أصدّق؟ الجيش لم يقدم لي اقتراحاً كهذا؟ ليست هناك عملية عرضها الجيش أمامي وأنا لم أصدقها.
لقد نشأ هنا وضع غريب كما لو أن الحوار بين المستويين السياسي والعسكري هو من النوع الذي يفيد بأن الجيش ينشغل بأموره, انه في كل مرة يحتاج فيها إلى تصديق يذهب للمستوى السياسي ويطلب هذا التصديق للعملية الإضافية أو سواها. ...
وهذه السيرورات لم تتم وبالتأكيد ليس بالطريقة هذه في حرب لبنان ولذلك نشأت الفجوات التي سمحت لشخص أن يفهم شيئاً ولآخر أن يفهم شيئاً آخر. وعندما كان شمعون بيريز وزيراً للخارجية قال ذات مرة في إحدى المداولات مع هيئة الأركان عن مشاكل مشابهة جداً بعد وقت قصير من عملية السور الواقي: إن ثمانين في المئة من القضايا التي نناقشها ليست سياسية بحتة وليست عسكرية بحتة وهي تنطوي على البعدين, ولا مناص أمامنا سوى الجلوس سوية وبوتيرة عالية من أجل فهم الواقع بالدرجة نفسها. وأعتقد أننا افتقدناه في حرب لبنان الثانية.
والمبالغة ولكن في الاتجاه المقلوب وقعت في عملية «الرصاص المسكوب». من منطلق الخشية من أنه لا تجري مداولات كافية, كانت المداولات في السور الواقي من النوع الذي لم يسمح في نهاية المطاف للمستوى العسكري بإدارة الحرب فعلاً بطريقة مريحة. وفي عملية «الرصاص المسكوب» كان رئيس الأركان في كل يوم يجري تقويم وضع, وهذا واجبه. ولنقل من الساعة الرابعة إلى الساعة السادسة, وفي الساعة السادسة يذهب طاقم هيئة الأركان كله إلى ديوان وزير الدفاع. ومن الساعة السادسة إلى الثامنة يجري تقويم الوضع مع وزير الدفاع. وحينما ينتهي الأمر في الثامنة تبدأ عملية تقويم الوضع مع رئيس الحكومة والمجلس الوزاري المصغر وتنتهي في حوالى الحادية عشرة ليلا.
إن تسعين في المئة من الأقوال التي تسمع هناك لا شأن لرئيس الحكومة ولا لوزير الدفاع بها. وأقول لكم مازحاً إنها لا تعني حتى رئيس الأركان. فالأمور في عملية «الرصاص المسكوب» كان يمكن أن تنتهي بمستوى تقويم الوضع الميداني. وهكذا انتقلوا من تطرف واحد هو غياب الحوار بين المستوى السياسي والمستوى العسكري إلى تطرف آخر هو مداولات لا تنتهي في هيئات موسعة. وهذه كانت مداولات تعرقل من كان ينبغي لهم القيام بالعمل. والتوازن المطلوب لم يكن لا هنا ولا هناك.
والنقطة الرابعة, وهي النقطة الوحيدة ربما التي أتعامل فيها مع المسائل الأكثر عسكرية منها سياسية, وهي تتعلق بإحدى المظاهر التي نعرفها, وهو أن العدو أضعف, وثمة تماثل في الأداء سواء بين حزب الله أو حماس أو أي جهة أخرى. وما دام العدو ضعيفاً فإن الطريقة الأنجع له هي الدخول إلى المناطق المأهولة سواء مخيمات اللاجئين في الضفة أو القرى في لبنان أو منطقة مأهولة باكتظاظ في غزة. وهذا مكان يصعب فيه على الجهة المهاجمة العمل فيه. فقسم كبير من ميزاته سوف تتبدد لأن المنطقة المبنية تمنح مزايا. وهكذا كلما كان السكان المدنيون أكثر وكلما كان القتال أشد فإن الكثير من المدنيين سوف يصابون وهذا يعود بالسوء على القوة المهاجمة. وهذه نقطة قوة العدو.
إن هذا الأمر صحيح، لكنه صحيح إلى مستوى محدد، وهو في الأساس مرتبط بمستوى جاهزيتك للعب وفق قواعد لعب أعدها الطرف الثاني, أو بمقدار استعدادك لتحمل المجازفة العسكرية والسياسية بالدخول للقتال حتى في المناطق المبنية. وتجربتنا في العمليات الثلاث, السور الواقي, حرب لبنان الثانية وعملية «الرصاص المسكوب» تظهر أن لدينا القدرة للدخول في قتال مكثف في مناطق مبنية. وأنه لحظة قيامك بذلك تكسب مرتين. الأولى أنك تصل للإنجاز العسكري الذي تريد تحقيقه، كما رأينا ذلك في السور الواقي وفي عملية الرصاص المسكوب. والثانية التي لا تقل أهمية, وهي أنه يتضرر مدنيون, يتضرر أشخاص، ولكن بشكل أكبر تتضرر الممتلكات والبنى التحتية, فإن قسما من التأييد الذي كان السكان يمنحونه للنضال ضدك, سواء من جانب سكان جنوب لبنان أو سكان غزة, يتراجع. وتبدأ في الظهور أسئلة قاسية بعد ذلك.
والأسئلة القاسية هذه هي أكثر من أي شيء آخر تضع حجر رحى على كتف حزب الله وحماس وعلى مدى جاهزيتهما لاستئناف القتال مرة أخرى. ولهذا السبب فإن أحد الاستنتاجات في هذا الشأن هو عدم القبول بلعبة عدم دخول المناطق المبنية وأن نكون جاهزين لدخولها بالقوة المطلوبة. وكما أسلفت فإنك عندما تبث الشارة الأولى, النفسية, باستعدادك لفعل ذلك, يغدو الشأن العسكري أمراً مدركاً بشكل أكبر. فأنت هنا تعطي الطرف الآخر إحساساً بأنه ليس لديه مكان يستتر فيه حتى النهاية, والسكان هم ملجأ باهظ الكلفة بالنسبة إليه.
وهذا الأمر سواء في السور الواقي أم «الرصاص المسكوب» تمّ على الوجه السليم, لكنه تمّ بتردد كبير في حرب لبنان وشكل واحداً من أبرز إشكالياتها.
النقطة الخامسة تتعلق بالشرعية الدولية. ونحن نفهم أن الشرعية الدولية أمر بالغ الأهمية, وأن مدة العملية العسكرية تتأثر ليس فقط بقدراتك العسكرية إزاء الطرف الثاني وإنما كذلك بما يحدث في الأمم المتحدة والولايات المتحدة وفي الرأي العام العالمي وعدد التظاهرات ضد دولة إسرائيل. هذا صحيح ولكن على وجه العموم يعتبر تأثير هذه العوامل قصيراً. وأحد الأمور التي ينبغي التأهل لها هو تحمل الضغوط الدولية والغضب الدولي بما في ذلك من أصدقاء كبار مثل الولايات المتحدة, بسبب أنك إذا أفلحت في التغلب على ذلك في وقت قصير نسبيا, سواء أيام أم أسابيع معدودة, من اجل بلوغ الإنجاز الذي تريد فإن هذا على المدى البعيد يخدمك ويعيد إليك الشرعية بقدر ما تكون قد نجحت في مهمتك.
وعندما بدأت عملية السور الواقي, وكان أساس العملية العسكرية وللمرة الأولى على مستوى الكتائب والألوية موجهاً نحو المناطق المبنية الفلسطينية, وهو أمر وضع علامة استفهام حول قدرة السلطة الفلسطينية على البقاء, تعرضنا لضغط هائل من الولايات المتحدة. وأنا أفترض أن بينكم من يعرف كيف كان الضغط, وأنا أعرفه عن قرب, من المكالمات الهاتفية المحذرة التي وصلت من كوندليسا رايس وكانت حينها مستشارة الأمن القومي في إدارة بوش. وقد بدأ الضغط بالمطالبة بخروجنا خلال ثمان وأربعين ساعة وتواصل بعدها بالاستعداد للبحث في التمديد, .... وفي نهاية المطاف فإن الضغط الدولي والغضب الدولي والانتقاد الدولي انتقل مرة أخرى إلى العنوان الثاني في الصحف من ناحية وعندما تثبت نجاحك فعلى الأقل أصدقاء مثل الولايات المتحدة «يصفحون عنك». وحول هذه المسألة أعتقد أنه في حرب لبنان الثانية كانت هناك خشية مبالغ فيها, ذعر أكثر من اللازم مما يقال في أماكن مختلفة في العالم. ولم يتوفر هناك الوقت لفعل ما نظن أن من الصواب فعله.
وهذا يقودني إلى النقطة السادسة وقبل الأخيرة وهي تتعلق بالصلة بين النتيجة العسكرية والإنجاز السياسي. وفي هذا الشأن ثمة تغيير جوهري بالصلة بين الأمرين مقارنة بما خبرنا في حروب الماضي. وإذا أخذنا الحرب العالمية الثانية, وهي مثال هو الأفضل, فإن الحرب العالمية الثانية هزم فيها طرف الطرف الآخر وحقق نصراً غير مشروط وكان بوسعه أن يملي نتيجة الحرب وهو ما يسمى الاستسلام من دون شروط. ...
إن الصلة بين الأمرين هنا ليست هشة وإنما بقدر ما وبترتيب مقلوب. وبكلمات أخرى عندما تخرج إلى عملية في لبنان, أو عندما يغدو واضحاً لك أنك ستخرج في عملية في لبنان فمن الواضح أن هناك صلة, ولكن ليس بالضرورة صلة كبيرة, بين حجم الإنجاز العسكري وحجم الإنجاز السياسي أو المخرج السياسي لاحقا. ولذلك عندما بدا واضحا أن معركة كهذه سوف تقع كان من الواجب بدء الخطوة السياسية قبل بدء العملية السياسية. وأحد الأمور التي لم يفعلوها في لبنان, رغم أن الموضوع كان على الطاولة, هو أنه وقبل شهور من الحرب كان ينبغي أن نعرض على الأميركيين ما سوف يحدث. والقول بشكل بسيط وليس بشكل استغلالي, وعبر وصف الحقيقة, أنه في كل مرة ينفذ فيها حزب الله عملية على طول حدودنا, يمكننا تحمل هذه العمليات طالما أن الثمن منخفض وإلى مرحلة معينة لا نستطيع فيها احتمال الثمن وحينها سوف نضطر للعمل في لبنان.
وعندما نضطر للعمل في لبنان فسوف نعمل ليس فقط ضد حزب الله وإنما كذلك ضد جهات أخرى. ولذلك هيا نوضح لكم أيها الأميركيون ما سوف يحدث في لبنان إذا وعندما نصل إلى وضع كهذا. والمسألة ليست إذا كنا سنصل بل متى نصل. ... ولذلك فإن المعركة السياسية في كثير من الأحيان يجب أن تبدأ قبل وقت طويل من بدء المعركة العسكرية وليس أن نبدأ تفسير المعركة سياسياً بعد نشوب المعركة العسكرية. وكما قلت كان الترتيب مقلوباً.
وهذا يقودني إلى النقطة الأخيرة وهي التعامل مع المستقبل. وسوف أقول بشكل استفزازي ما يلي: إذا نشبت غداً حرب لبنان الثالثة فإنها لن تكون في نتائجها مغايرة تماما لحرب لبنان الثانية. وسوف أوضح رأيي. صحيح أننا تحسنّا. وكل الدروس التي استخلصت بعد وقت قصير من الحرب على يد لجان عسكرية تم تجسيد قسم كبير منها. والجيش يعمل منذ ثلاث سنوات. وهناك الكثير من الفعل الناجح في ميادين الجبهة الداخلية وهناك تحسن في الصلة بين المستويين السياسي والعسكري، ونحن الآن أفضل وأحسن من الطرف الثاني. غير أن نتائج الحرب لا تتعلق فقط بجهة واحدة.
وعندما ننظر إلى حزب الله نجد أيضاً أنه تحسّن هو الآخر. فلديه صواريخ بعدد أكبر بكثير مما كان لديه في حرب لبنان الثانية. والأهم من ذلك أن مدى صواريخه الناجع صار أكبر. ولذلك فإنه في حرب لبنان الثانية كان بوسع عملية برية تصل إلى الليطاني أن تسيطر على ميدان معظم الإطلاقات المحتملة. ولكن مثل هذه العملية في حرب لبنان الثالثة لن تكون كافية. وقد تحسن أداء حزب الله أيضاً في ميادين أخرى، خصوصاً في حقيقة أنه إذا كان في الحرب السابقة كان يعمل في مناطق مفتوحة فإنه الآن دخل بشكل متزايد إلى داخل المناطق المبنية وقد بنى ما يشبه المدن تحت الأرض والتي توفر له امتيازات تكتيكية واضحة حتى مقارنة بما كان يمتلك قبل ثلاث سنوات.
ويمكن القول بشكل فظ من الناحية التكتيكية أن التحسن الذي طرأ على طرف يتقاطع مع التحسن الذي طرأ على الطرف الآخر. ونحن نصل بشكل أو بآخر للنتيجة نفسها. وإذا شئتم أن أتحدث بلهجة أكثر تفاؤلا فإن الجيش الإسرائيلي قد يستطيع ضرب حزب الله بقوة أكبر، ولكن حزب الله أيضا يستطيع ضرب الجبهة الداخلية الإسرائيلية على الأقل بصواريخ أكثر وبعمق أكبر وربما بصورة أدق.
ولهذا إذا بدأت حرب كهذه فإنه ليس بالضرورة أن تكون نتائجها مغايرة. وما الذي يمكن أن يقود إلى نتيجة مختلفة جداً وبقدر كبير مكتملة لدرجة أنها هي قد تمنع تلك الحرب تتعامل مع نقطة أخرى لم أشر إليها حتى الآنن وهي تحديد العدو. وقد تحدثت سابقا عن الأخطاء في تحديد الهدف. ولكن لا يقل أهمية عن ذلك التحديد الدقيق للعدو.
لقد أسلفت وذكرت عملية السور الواقي وأنا أعود إلى هذه النقطة. ففي السور الواقي تسلطت الأضواء على السؤال: من هو العدو؟ والجدال لم يكن سهلاً البتة. وعليكم أن لا تنسوا أنه من الناحية السياسية لم يكن بوسع حزب العمل أبداً أن يقبل التوصيفات التي رأت في السلطة الفلسطينية عدواً أثناء عملية السور الواقي. ولكن هذا القرار حرر منذ تلك اللحظة هامش الفعل العسكري وجعله واسعاً بشكل لم يكن ليتوفر لو أن العدو بقي محصوراً في حماس التي نفذت عمليات أدت إلى إلحاق الأذى بمؤسسات ورموز وقوات السلطة الفلسطينية.
ما الذي حدث في حرب لبنان الثانية؟ وأين كان الخطأ؟ في حرب لبنان الثانية كان التوصيف هو أن حزب الله هو الشرير. ولأنه كذلك فإنه هو العدو. والعالم تقبل ذلك من دون تساؤلات. ولكن من كان الأخيار؟ الأخيار كانوا سكان لبنان, دولة لبنان وحكومة لبنان. إنهم أخيار ولذلك محظور المساس بهم. وأنا أقول التالي: لا يمكن هزيمة تنظيم عصابي ناجع, وحزب الله هو من هذا النوع, إذا توفرت ثلاثة شروط:
الأول, أنت في جانب من الحدود وهو في الجانب الآخر, كوضع ابتدائي.
الثاني, تمتع هذا التنظيم العصابي الناجع, أي حزب الله, برعاية تامة من دولة, كما يتمتع حزب الله من مثل هذه الرعاية في لبنان حيث أنه جزء من المنظومة السياسية والبرلمان والحكومة وكان لديه حق النقض في الحكومة وهذا يجعله يتمتع برعاية حكومية تامة.
والثالث, هو أن تلك الدولة, التي تمنح الرعاية, محصنة تماماً من أي عملية قد تضر بها.
وعندما تتوفر هذه الشروط الثلاثة لا يمكن تحقيق النصر. وفي نظري فإن الخطأ الأكبر في حرب لبنان الثانية كان يكمن هنا. فقد كان التوصيف ضيقاً وغير واقعي للعدو. وكلامي يعني أن الصائب فعله الآن هو وجوب إجراء المعركة السياسية قبل المعركة العسكرية, وأن نشرح للعالم, لأصدقاء لبنان, سواء فرنسا أو الولايات المتحدة, أو السعودية أو الأمم المتحدة أو لأي جهة أخرى الأمر التالي: هناك وضع هادئ نريد استمراره, وإذا فتحت النار ثانية من لبنان, ليس لأننا نريد ذلك وإنما لأنه لا مفر أمامنا من ذلك, فإننا لا نستطيع محاربة حزب الله من دون أن نهزمه, ولا نستطيع إلا أن نحارب دولة لبنان. وأن نحارب ضد دولة لبنان تعني محاربة كل ما يخدم دولة لبنان. فثمة صلة مباشرة بين القتال وبين وضع البنى التحتية, ونحن سنضربها.
ولكن الطريق لمنع الحرب, هي أن تفهم الحكومة اللبنانية ذلك, وأنها بالنسبة إلينا ستكون العنوان. والحرب لن تكون بين إسرائيل وحزب الله وإنما بين إسرائيل والدولة اللبنانية. وحيث أن العرب يريدون الحفاظ على دولة لبنان سالمة ومن دون ضرر, والغريب أن سوريا وإيران من ناحية يريدان لبنان مستقراً ومزدهراً وهما تتوقعان أن هذا مفيد لهما, ومن ناحية ثانية الغرب الذي يريد أن يكون لبنان دولة مستقرة ومزدهرة. وهذا يعني أن هناك كل الجهات التي يمكن التباحث معها ولو بشكل غير مباشر لمنع الحرب التي لن تنحصر في إسرائيل وحزب الله. لأننا لا نستطيع هزيمة حزب الله من دون هزيمة الدولة اللبنانية.
وفقط بوسع قول كهذا, يستند إلى سياسة واضحة, ولفترة زمنية طويلة, ينقل الرسالة قبل بدء العملية, أن يضمن تأجيل هذه الحرب مرة تلو مرة. وإذا وقعت الحرب رغم ذلك فإن حرب لبنان الثالثة سوف تنجح بمنع حرب لبنان الرابعة.
وإذا نظرنا إلى الوراء إلى حرب لبنان الثانية وقلنا ما هي العملية الأنجع التي نفذها الجيش الإسرائيلي فإنها ليست ضرب هذه الصواريخ أو تلك وليس بمختلف أنواع العمليات التي كانت مذهلة جداً على الصعيد التكتيكي، وإنما تحديدا القرار بمهاجمة الضاحية بشكل مكثف وإحداث هذا القدر الكبير من الدمار في بيروت هو, أكثر من أي شيء آخر, العبء الأكبر الذي يشعر به حزب الله اليوم. فحزب الله أيضا, ومع كل الاحترام له, يفهم أن هناك حدوداً للدمار الذي يستطيع احتماله ليس فقط في لبنان وإنما أيضا لسكان لبنان الشيعة الذين سوف يتساءلون عن جدوى ما جرى.
ولهذا فإن نوعية الحرب هي أن علينا محاربة عصابية الدولة قدر الإمكان وليس أي جهة أخرى. وبالإشارة إلى «الرصاص المسكوب», وسبق لي أن قلت ذلك قبل عامين ونصف عندما امتلكت حماس الحكم في غزة, فإن ميزة الوضع الناشئ في غزة مقارنة بالوضع السابق هو أن حماس في الماضي كانت تطلق الصواريخ وكانت السلطة الفلسطينية هي التي تتحمل العواقب وكان عليك أن تحارب جهة ومحظور عليك ضرب الجهة الأخرى. وقد انتهى هذا الوضع حال تولت حماس الحكم وغدت الجهة السلطوية المسيطرة في غزة والتي تتحمل المسؤولية عما يجري في غزة, ومن حقه علينا أن نقول إنه لا ينكر ذلك, فهناك جهة سلطوية يمكنك تهديدها وضربها وكما نرى، فإن بالوسع ردعها.