تمسك بالجرد العكاري من حدوده البقاعية وتنعم بطبيعة خلابة بلدة « فنيدق» تعيش الإهمال لحظة بلحظة

صهيب ايوب
فنيدق:
ليس مستغرباً أن تكون فنيدق، البلدة الأكثر حرماناً في عكار، موطناً للبؤس والحرمان منذ عشرات السنين. ببساطة، وقعت البلدة التي تمسك الجرد العكاري من حدوده البقاعية، تحت سلطة الخوف والنسيان والإهمال والأحكام المسبقة رسمية كانت أم مجتمعية محيطة.
تغرق فنيدق في الفقر والحرمان وشظف العيش. يأوي أطفالها في مساءاتهم الضحلة إلى بيوت ضيقة ومكتظة. يلعبون في ساحاتها كمشردين وخائفين ولكنهم حالمون. يتحدون بإرادة صلبة قسوة الحياة المفتقرة لرفاهية الطفولة السعيدة والمنزلقة في الشقاء.
ونساؤها لم يعرفن سوى الدعاء سبيلاً لحفظ أولادهن. ورجال البلدة يترقبون مصير أبنائهم الضائعين في دوامة الحرمان والقحط. لا بناء استشفائياً، ولا جامعة وطنية ولا غير وطنية.
يبقى الأمل، وجمعتهم المسائية بعضهم بالقرب من بعضهم الآخر واستئناسهم العائلي، الذي يجعل إحساسهم بالحياة ذا قيمة.
مشاهد من حياة البؤس
في ظهيرة يوم صيفي قائظ، يتسابق أطفال فنيدق للاستمتاع بعطلتهم الصيفية. ينطلقون مهرولين بسرعة الى الساحة، منتعلين أحذية مهترئة، ما تزال وحول الشتاء عالقة بها. يتوجه بعض الأولاد صوب بيوتهم المحتفظة ابداً بطبقتها الأسمنتية الداكنة. تلحق بأحدهم إلى غرفة المطبخ حيث لا «براد» أو فرن غاز كما الكثير من ضروريات تسهيل الحياة والعمل المنزلي. يتناول الولد في عجلة من أمره، وجبة من «المجدرة» باللوبياء (الوجبة الأكثر شهرة في فنيدق)، ثم يصطحب إخوته الصغار. تخرج «المجموعة» لكثرة عديد أفرادها من المنزل إلى زواريب الأحياء الفقيرة والبائسة داخل البلدة النائية في جرد عكار. يلعبون بشقاوة غير اعتيادية حاملين عيداناً من الحطب وأغصان شجر التفاح، المتوفر في بلدة يعتمد معظم أهاليها على مواسمها ليعيلوا أسرهم وليدفعوا من نتاجها مصاريف المدرسة والاستشفاء.
تجد معظم العائلات أنها تعتمد في عيشها الاكتفائي على موسم التفاح، «الذي يذهب نصفه للسماسرة، والنصف الآخر «يا دوب» يكفينا»، كما يعبّر عن ذلك الحاج محمد جود.
تبدو الطريق الرئيسية التي تصل إلى ساحة البلدة ضيقة. تحيط بها بيوت متواضعة وكأنها استنبتت في عجل. لا تستوعب الطريق لأكثر من سيارة صغيرة الحجم. تصادف في عبورك عدداً من البغال و«الحمير» المحملة «برزم»، «السيكون» والحطب لاستخدامه في الطهو وتسخين مياه الاستحمام، وطبعاً في التدفئة في فصل البرد والثلج. ما تزال مظاهر البدائية تطبع حياة الناس في فنيدق التي تنعم بطبيعة نادرة. طبيعة لم تسعف أهلها في الخروج من فقرهم وقساوة حياتهم.
هناك تسابق الدواب السيارات الصغيرة والمهترئة. يسحبها أولاد صغار لا يتعدون العاشرة من عمرهم، تعلو وجوههم ضحكات تائهة وترتسم على خدودهم الحمراء «المتورَدة» بلون أحمر جوري، تساؤلات حائرة. يأتمرون بما يقوله رجل طاعن في السن. هم عادة أحفاده وأبناء رجال التحقوا بالسلك العسكري، ليؤمنوا لأطفالهم وأولادهم احتياجات تعجز عنها الزراعة والأراضي ذات الحيازات الصغيرة.محطة عبور وفندق
عرفت فنيدق، وهي تصغير لكلمة فندق، كونها محطة لعبور القوافل ونقطة وصل بين طرابلس والبقاع. يتحدّث المؤرخ خضر حيدر عن تاريخ البلدة قائلاً: «بعد تأسيس طرابلس كمدينة فينيقية تجارية، أصبح هناك ضرورة لمحطات للقوافل البرية التجارية. وحسب الروايات التاريخية، لم يكن يوجد إلا محطتين جبليتين، الأولى فنيدق والثانية في الداخل السوري»، مشيراً إلى أن «التسمية الإغريقية للبلدة هي «pondokion " وتعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد».
متى نشأ مجتمع فنيدق؟
بعد خلو المنطقة فترة طويلة من الزمن، وبعد الفتح العثماني لبلاد الشام، أرسلت السلطنة عائلات لتكون داعماً لها في هذه المناطق. وأسكنت في بلدة فنيدق الجردية عائلة زكريا لحمايتها.
«نشأ هذا المجتمع مع عشيرة آل زكريا، التي راحت تكبر شيئاً فشيئاً. ونزحت مجموعات كبيرة من القاصدين للزراعة إلى البلدة الجردية، حيث استنبتوا الأراضي واستصلحوها متشجّعين بغزارة المياه على العيش فيها»، على ما يقول المؤرخ حيدر.
السكن في البلدة بدأ منذ 470 عاماً تقريباً، وآخر قبيلة سكنتها أتت من بعرين (في سوريا)، ويرى حيدر أن «العشائر كانت وطيلة وجودها، تحاول الحفاظ على عاداتها وتقاليدها المجتمعية. وعرفت فنيدق مجتمعها «العشائري» مع عشر قبائل هي: زكريا وعائشة (جب من آل زكريا)، زهرمان، الحج ديب، كنعان طالب، جود، صلاح الدين، السيد، الكك والبعريني».
عادات عشائرية
ما يزال بعض العادات العشائرية متوارثاً في المجتمع القروي في فنيدق، حيث يكثر الزاوج العشائري «من ابن العم». ويهتم اهالي فنيدق من خلال علاقاتهم، بالرابط العشائري للحفاظ على الملكية، و«كان هناك توازن بين العشائر والذي شهد في مراحل معينة ثأراً واقتتالاً»، وفق ما يقول حيدر. ويضيف «بعد ذلك وحدّتهم الحاجة الاستراتيجية للحفاظ على امن منطقتهم من هجوم عشائر مجاورة في منطقة الهرمل».
إهمال لا بعده إهمال
يبدو إهمال الدولة ومؤسساتها بارزاً في البلدة التي يبلغ عدد سكانها 27 ألف نسمة، ولا يوجد فيها ضابط أو موظف في الإدارات العامة.
تكثر في زواريبها أشرطة الكهرباء المهترئة، وتعيش بعض البيوت الداخلية في عتمة موسمية، قد تبدأ ولا تنتهي أسباب الأعطال في الشبكة وقدمها «والتي تعود، كما يقول رئيس بلدية فنيدق سميح عبد الحي لـ«السفير» إلى العام 1965. لم تؤهل الشبكة سوى لبعض الأحياء وأهملت معظمها». وتعيش بيوت الأحياء الداخلية في البلدة، في وضع مأساوي وبائس. الطرقات غير معبدة واسفلتها مهترئ، وهناك طرقات ترابية لم تعرف الإسفلت يوماً. ترتفع بعض الأبنية السكنية إلى ثلاث أو أربع طبقات، مع العلم أنها مبنية بطريقة عشوائية، وتسكنها عائلات وأسر فقيرة ومكتظة.
تفتقر غالبية منازل فنيدق لأدنى الشروط الصحية. ويقول الطبيب بسام سعود إن «البلدة تعيش في تفاصيل حياتها اليومية، في بؤس وفقر يزيدان الوضع الصحي سوءاً»، مؤكداً أنه «لا توجد توعية صحية لأن الناس لا تتقيد بالتعليمات التي تجنبهم الأمراض الناجمة عن الإهمال وعدم الاهتمام بالصحة المنزلية». هناك عيادات تشبه الدكاكين وغير مجهزة، يبدو أن زوارها قلة، يبحثون بعشوائية وعدم اكتراث عن نصائح مجانية في أكثر الأحيان، لحالات مرضية معينة.
يقول رئيس البلدية سميح عبد الحي إن «فنيدق تفتقر لجميع الخدمات الصحية التابعة للدولة، فرغم كثافة السكان في البلدة لم تقم الدولة بإنشاء مستشفى حكومي ولا يوجد مستشفى قريب، وأقرب مستشفى يحتاج إلى ساعة من الزمن في السيارة للوصول إليه، حيث يصل المرضى على حافة الموت».
التهميش الذي يبدو أنه شعور مشترك لدى كل مواطني بلدة فنيدق، يتعدّى الشعور بالغبن ليطال مرافق أخرى كالمدارس وأبنية مؤسسات التعليم الرسمي المهترئة. و«يعاني القطاع التربوي من غياب الدور الفاعل للتفتيش وضعف المناهج واعتماد أساليب تعليمية تقليدية، وعدم وجود وسائل إيضاح حديثة، وعدم تأمين التجهيزات، وتدني مستويات الطلاب، وغياب التعاون بين الأهل والإدارة». وفق المربي محمد صلاح الدين. ويشكل التسرب المدرسي ابرز المشاكل المستمرة والمستجدة في البلدة.
أما ما يعانيه طلاب الجامعات من أبناء البلدة فحدث ولا حرج، إذ يكفيهم عذاب «المشوار» اليومي، إلى جامعاتهم في طرابلس.
طلاب الجامعة ورحلاتهم الشاقة
يروي لنا الطالب عبد الرحمن صلاح الدين معاناته اليومية لارتياد جامعته والتكاليف والمشقات التي يتكبّدها مع عائلته من اجل التعلم. لأنه وببساطة لا توجد جامعة في عكار. يضطر أبناء فنيدق من الراغبين بإكمال تعليمهم الجامعي إلى الذهاب فجر كل يوم، على الأقل إلى مدينة طرابلس التي تبعد حوالى 45 كيلومتراً عن البلدة. وتصبح مسافة الـ45 كيلومتراً مضاعفة ثلاث مرات على طرقات محفرّة وملتوية. يستقل صلاح الدين حافلة صغيرة «فان» ليصل إلى طرابلس، إذا حالفه الحظ في فصل الشتاء ولم تنقطع الطرق المؤدية إلى المدينة أياماً طويلة، بسبب الثلوج والعواصف». يؤكد عبد الرحمن أن «الطالب القادم من فنيدق الى طرابلس، غير قادر على الاندماج مع باقي الطلاب من طرابلس بسبب النظرة السلبية التي ينظر بها ابن طرابلس إلى أبناء فنيدق».
يشار إلى أن نسبة المتعلمين في فنيدق عالية جداً، إلا انهم يفتقرون إلى فرص العمل كما ابناء المناطق النائية والمتروكة من لبنان.
في فنيدق يستقبلك الناس بابتسامات صادقة ويرحبون بك على طريقتهم، وبما تيسر لهم من أصول الضيافة. هناك تشعر انك وسط اهلك. يجلس الحاج احمد كنعان شارداً بأشجار بستان التفاح الملاصق لبيته ليتحدث عن موسم «لم يعد يلبي أحداً، بل يكفي لضيافة العابرين ولمؤنة الأولاد». يبتسم الحاج بعد دعوة إلى فنجان من الشاي الساخن في دارته البسيطة، متمنياً ان يرسل الله لكل المناطق الشبيهة بفنيدق «منقذاً حقيقياً وسياسة وطنية، تخرجها من بؤسها وحرمانها القاسيين».