علم النفس في متناول الجميع... لا يغفل الفقر والجندر وحقوق الإنسان «حيث لا يوجد طبيب نفسي»: دليل الفرد والعامل الصحي العربي

امرأة في منتصف العمر، ترتدي ثوباً فضفاضاً مزركشاً، وشعرها الغامق معقوص في ضفيرتين، تتحدث إلى رجل أسود الشعر بقميص أبيض وبنطال من اللون ذاته.
هي امرأة تعاني «مرضاً» ما، كما يشي وجهها المتعب، وهو عامل في الصحة العامة:
- أشعر بالأوجاع والآلام في جسمي كله.
- الشكاوى الجسدية التي تزعجك ناتجة عن الأسى الذي تشعرين به.. ما هي المشاكل التي تشعرك بالأسى؟
- منذ أن مات زوجي وترك أولادي المنزل أشعر كثيراً بالوحدة والبؤس.
- هل يمكنك أن تفكري في طرق تقلل من وحدتك؟
- ربما يمكنني أن أزور الأصدقاء أو أتصل بشقيقاتي في القرية المجاورة.
- حسناً، أيمكننا أن نتفق على أن تزوري على الأقل واحدة من شقيقاتك، وأن تدّعي على الأقل واحدة من صديقاتك في القرية إلى منزلك، خلال الأسبوعين المقبلين؟
المرأة (بعد أسبوعين): أشعر بتحسّن كبير، فقد دعتني أختي لقضاء عدة أيام معها في الشهر المقبل...
السيناريو أعلاه يرد في رسومات «كرتونية» ضمن كتاب «الصحة النفسية للجميع: حيث لا يوجد طبيب نفسي» (الطبعة العربية المعدلة الأولى الصادرة عن «ورشة الموارد العربية»)، وتحديداً في الفصل المخصص للاضطرابات النفسية.
تحت الرسم نقرأ ملاحظة توجيهية: «قد نحتاج إلى إعطاء الشخص بعض الأفكار عن الحلول لمشكلاته، خصوصاً في بداية العلاج. لكن يجب أن نبذل الجهد في مرحلة من المراحل كي يتولى بنفسه دور القائد في حل المشكلات».
هكذا، يمتلئ الكتاب بالرسومات التوضيحية المقترنة بشروحات مبسطة وممنهجة، ودائماً بشكل جدي، لمختلف المشاكل والسلوكيات الأكثر انتشاراً والتي تُقتفى لها جذور نفسية.
كتاب قليل مثيله في المكتبة العربية العامة، لا سيما على رفوف البيوت والمستوصفات والمراكز الصحية الأهلية. ويندرج هذا الإصدار النوعي ضمن سعي «ورشة الموارد» إلى سد الثغرات في المراجع العربية، ومن بينها تلك التي في متناول المواطن العادي، وفي صفوف الفئات الوسيطة بين «النخبة» (الطبية والاجتماعية) وبين «الجماهير». علماً أنه يوزع مجاناً على الجهات - المفاتيح في مجال الصحة العامة، ويباع بسعر عشرة دولارات في المكتبات.
يقع الكتاب في حوالى 240 صفحة، بالإضافة إلى ملاحق وجداول أكثر تفصيلاً. وأبرز العناوين الرئيسية المتوالية فصولاً هي: مدخل إلى الصحة النفسية، الفحص النفسي، علاج الاضطرابات النفسية، التصرفات المثيرة للقلق، الأعراض التي ليس لها تفسير طبي، العادات التي تسبب المشكلات والإدمان، المشكلات الناتجة من الفقدان والعنف، مشكلات في الطفولة والمراهقة، دمج الصحة النفسية في الأطر المختلفة (كالصحة الإنجابية، ورعاية المسنين، ورعاية المصابين بالسيدا،..)، تعزيز الصحة النفسية والمناداة بها (مجموعات الدعم، المدارس،..)، أدوية الاضطرابات النفسية (كاختيار الدواء المناسب ثمناً وفعالية). واللافت أن الكتاب لا يغرق في المصطلحات الطبية، وفي الوقت نفسه لا يحصر اهتمامه في تبسيط المعلومات العلمية الأساسية وحسب. بل يذهب خطوة إضافية باتجاه ربط علم النفس بقضايا إنسانية، من نوع الفقر والجندر وحقوق الإنسان التي لا تستثني المثليين جنسياً والمتأخرين عقلياً. هذا، بالمطلق، توجّه يؤنسن العلم ويعزز شموليته، وعندما نعلم أنه وضــــع خصيصاً للبــــلدان النامية نجدنا أكثر تقديراً لمثل هذه المقاربة التي تعيد التأكيد على أن علم النـــفس هو علم التفاعل مع الروح البــــشرية وفهمها، وبالطبع لا تنفصل الأخيرة عن العالم الذي تعيش أزماته، بذاتها الداخلية كما بجسدها.
فلمن يتوجه هذا الكتاب؟ وأي «مدرسة» في علم النفس يتبنى؟ وأي أهداف يتوخى، عبر تعميمه ووضع إرشاداته موضع التطبيق؟ وإلى أين تفضي ورشة العمل التي تعقد اليوم وغداً لشرح استخداماته؟
«توجه ديفيد ورنر، وهو من الأشخاص الذين لديهم خلفية في التعليم المدرسي، إلى جبال المكسيك لرسم النبات، فوجد أن الناس هناك محرومون من أي شكل من أشكال الرعاية الصحية العلمية، وأنهم يُستغلون عندما يأخذون المرضى إلى العاملين الصحيين. وفي سنة 1977، صدرت النسخ الأولى من كتاب «حيث لا يوجد طبيب» بالإسبانية، بمساعدة بعض زملائه في القطاع الصحي، وسرعان ما تلتها الطبعة الإنكليزية. وقد لبى هذا الكتاب حاجة ماسة بحيث ترجم إلى أكثر من مئة لغة...».
ترد التوطئة هذه في تقديم «كتاب الصحة النفسية للجميع: حيث لا يوجد طبيب نفسي» (تأليف: فيكرام باتل وهو محاضر في جامعة لندن وفي معهد الطب النفسي البريطاني ـ ترجمة وتعريب: ورشة الموارد العربية). والتقديم مذيل بتوقيع د.ديفيد مورلي، مدير مؤسسة «الوسائل التعليمية بتكلفة متدنية» (تالك)، إذ يسرد قصة سلسلة الكتب التي تضع الشؤون الصحية في متناول الجميع، من القراء العاديين إلى العاملين الصحيين في الميدان. ويخبر مورلي كيف استوحى باتل من كتب «حيث لا يوجد طبيب»، و«رعاية الأطفال المعوقين»، و«حيث لا يوجد طبيب أسنان»، فقرر أن الصحة النفسية ما زالت قطاعاً معتماً في ما يتعلق بالوعي العام ضمن المجتمعات الأقل حظوة في العالم. ويشرح باتل نفسه، في التمهيد الذي وضعه للنسخة الأصلية، أنه كتب هذا دليل «الصحة النفسية للجميع» لسببين رئيسيين. الأول، عدم وجود أدلّة عملية سريرية للرعاية الصحية مخصصة للعاملين في قطاع الصحة العامة، ومنهم الأطباء. فالأدلة الموجودة تركز اهتمامها على الاختصاصيين الطبيين أو أنها تتخذ شكل نشرات محلية، وتفتقر بالتالي إلى العمق. والسبب الثاني، يكتب باتل، «أني أدركت في أثناء سنوات عملي في البلدان النامية أن العقبة الكبرى تكمن في لغة الطب النفساني التي تتزايد تعقيداً وتقنية. وقد سعيت إلى تحطيم الجدارالذي بناه الطب النفساني حول نفسه».
إذاً.. «حيث لا يوجد طبيب نفسي» متوفر الآن بالعربية بفضل جهود «ورشة الموارد العربية»، التي سبق لها أن ترجمت بعضاً من الكتب في السلسلة المذكورة أعلاه، وستعقد لشرح استخداماته، اليوم وغداً، ورشة عمل في مركز «الجمعية المسيحية للشابات». وقبل الدخول في التفاصيل الرئيسية التي يشرحها لـ«السفير» المنسق العام لـ«ورشة الموارد»، د.غسان عيسى، يغري تصفح الكتاب المعرّب حديثاً بالإضاءة على عدد من سماته، وتحديداً أخذ المنحى البديل ـ إذا جاز التعبير ـ في التعاطي مع الصحة النفسية على محمل الجد.
يشعر من يأخذ الكتاب بين يديه، للمرة الأولى، وحتى لو لم يكن متخصصاً، بأنه أمام مقاربة لا تسعى فقط، في مجتمعات «العالم الثالث» عموماً والمجتمعات العربية خصوصاً، إلى تعميم المعرفة والتصدي لثقافة «الجنون» والإقصاء والإنكار والكبت وحتى الأدوية. بل ثمة أيضاً مقاربة «سياسية» ملهمة. نعم سياسية، لأنه من الواضح أن الخلفية «العالمثالثية» حاضرة من دون افتعال أو فرض، إنما بخفر مجد. وذلك ليس بمعنى توجه العالم المتقدم إلى الدول النامية بدليل يحاكي احتياجات تُرى من فوق، وبعين «الرعاية». بل بالاستفادة من خبرات أطباء وأكاديميين وناشطين في مجال توسيع إطار التوعية على الصحة النفسية في الحياة اليومية، لتُنبت الدول النامية، في أرضها، وطبقاً لخصوصياتها وأزماتها وتعقيداتها الثقافية والاجتماعية، نصائح وإرشادات حول مسألة ما زالت «عذراء» في ما خصّ طرحها على العموم وجعلها «شعبية» بأسلوب علمي رصين ومبسّط في آن معاً. أي أننا أمام مُنتج من المجتمع وإليه، من دون استبعاد ما حصّلته الدول التي سبقت غيرها في العلم والحداثة وتطور المفاهيم و«ابتذال» المعرفة إيجابياًَ. ولعل الفكرة هذه تفضي إلى شكل جديد، وأكثر فعالية، في التصدي لآثارالعولمة.. باستخدام حسناتها. فلا هيمنة لنمط طبي إلا بهدف إعادة الاعتبار إلى أنماط تتفرّع منه لما فيه فائدة النمطين معاً، ولتناول حاجات مجتمعات بعينها. فالهند ليست مثل بريطانيا، وبيروت - المركز ليست مثل المخيمات الفلسطينية المنتشرة في المناطق اللبنانية المختلفة. الأزمات تتفاوت وتختلف، وتتغير معها ردود فعل النفس البشرية التي تعيشها. ولعل أحد الأطر التي تنتهج الأسلوب هذا هي «حركة الصحة للشعوب»، التي تعقد مؤتمراتها حول العالم بمشاركة أكثر من ألف شخص، من أجل تبادل الأفكار والتجارب.
من هذا المنطلق تحاول «السفير»، في حديث مع د.غسان عيسى، استيضاح ما ورد في مقدمة د.مورلي المترجمة إلى العربية، إذ يقول إن فيكرام «وفي سنوات خدمته العديدة في زيمبابوي والهند، أدرك الحاجة إلى كتاب يلبي احتياجات العاملين الصحيين في العديد من المستويات عندما يواجهون مجموعة من مشكلات الصحة النفسية في أثناء المعالجة السريرية. وهو يقدم في كتابه الفهم الآسيوي والإفريقي لمشكلات الصحة النفسية». إذ كيف يختلف الفهم الآسيوي والإفريقي عن سائر مدارس علم النفس أو الطب النفسي في أوروبا وأميركا؟ يقول عيسى: «هي المدرسة المجتمعية، وتستند إلى خصوصية وثقافة مجتمع ما، قبل التوجه إلى مشاكله واحتياجاته على صعيد الصحة النفسية». ويشرح عيسى أن المدارس المكرّسة في علم النفس لطالما كانت تتردد في الاعتراف بالفهم هذا، وإن بدا ذلك في طور التغير».
يشير عيسى، وانطلاقاً من المفهوم ذاته، أن عملية الترجمة والتعريب استغرقت عاماً كاملاً، بدءاً من الترجمة الحرفية، وانتهاء بإدخال الخبرات العربية، وما يصادف العاملين الاجتماعيين والصحيين في المجتمعات العربية، إلى جانب إسهامات أكاديميين ومسؤولين عن مؤسسات معنية، من سوريا ولبنان ومصر وفلسطين واليمن. ويضيف أن هذا الكتاب موجّه فعلاً للجميع، كما يدل عنوانه، من القارئ العادي الذي قد يريد الاحتفاظ به في مكتبة البيت، إلى المرشدين الاجتماعيين (في المدارس والمراكز الخ...) والعاملين في القطاعات الصحية الأهلية والعامة (مستوصفات، جمعيات تعنى بذوي الحاجات الخاصة، تجمّعات المهجرين ومخيمات اللاجئين، الخ..). وبالتالي، يسعى هذا الكتاب إلى جعل المطلعين عليه قادرين على تشخيص بعض الحالات بشكل أولي، ورفدها بالدعم النفسي والاجتماعي، بالإضافة إلى تعيين المرحلة التي تستوجب تحويل الحالة إلى طبيب نفسي.
يشدّد عيسى على أن «جزءاً كبيراً من مجتمعاتنا ما زال لا يدرك أن ثمة ردود فعل بشرية طبيعية على الظروف غير الطبيعية، كأن تُفهم عوارض الأرق والعصبية والاكتئاب والميول للانتحار والبكاء، مثلاً، كنتائج متوقعة إثرالحروب والكوارث الطبيعية، وحتى الصدمات الشخصية والعنف الأسري وحوادث الاغتصاب، وغيرها من الحالات العنفية واللااستقرار. والأهم من إدراك ذلك كله هو تحرير تلك الحالات من هاجس الوصمة والميل إلى الإخفاء والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام». وأكثر ما يأمل عيسى أن يتثبت جدواه، في الورشة التي تعقد اليوم وغداً، أنها ستضم، إلى العاملين في الميدان الصحي - الاجتماعي، مجموعات أكاديمية وناشطة تستنير بقواعد علم النفس تحديداً psychology وليس فقط بمنطلقات الرعاية الصحية الأولية والطب النفسي psychiatry وهذا، في رأيه، يساهم ليس في وضع نموذج أولي لاستخدامات الكتاب وحسب، بل يمهد للمرحلة الثانية وهي تطبيق الشروح عملياً وميدانياً في دول عربية عدة، بل وفي تجمعات سكانية مختلفة الخصوصيات، ثم جمع الملاحظات التقييمة للتطبيقات. وأخيراً، يوضع، في المرحلة الثالثة، برنامج تدريب قابلة عناصره وأهدافه ونتائجه للتفنيد والقياس.
«سيقتلك.. يجب أن تضربه قبل أن يقتلك!».. هذه جملة ترد في «فقاعة» مرسومة فوق رأس شاب تشير تعابير وجهه إلى عدوانيته. هكذا يفكر الشاب، بحسب الرسم على الصفحة الأولى من فصل «التصرفات المثيرة للقلق». وتتوالى العناوين الفرعية: «الأسئلة التي ينبغي طرحها على أسرة الشخص العدواني وأصدقائه»، ثم «الأسئلة التي ينبغي طرحها على الشخص العدواني نفسه»، وصولاً إلى «ما العمل فوراً؟» وهنا نفهم أن «علينا أن نهدئ الشخص، ونطمئنه، ونصغي إليه، فلا نستعجل في السيطرة على الوضع»، قبل أن نعطيه مهدئاً (بوسائل مختلفة)، وإذا كان العنف مرتبطاً بالتشوش، فذلك قد يكون ناتجاً عن إصابة في الرأس أو عن مرض دماغي، وينبغي عندئذ أن نحيل الشخص إلى مستشفى للأمراض العامة... كان ذلك مثلاً على الأسلوب الهادئ والبسيط والرزين للكتاب.
فيكرام باتل كتب عن الناس لكل الناس. و«ورشة الموارد العربية» عملت كي لا يُستثنى المواطن العربي أينما كان.