الدين العام في نهاية العام الجاري سيبلغ أكثر من 58 مليار دولار فعلياً، أي ما يزيد على 215 % من الناتج المحلي الإجمالي، هذا النمو للمديونية بات بمثابة جريمة تتوالى فصولاً من دون أيّ عقاب أو مساءلة، بل على العكس تماماً، أصبحت المديونية القناة التي يجري من خلالها ضخ الدم لبقاء النظام السياسي وصموده
■ الجريمة: 58 مليار دولار آخر سنة 2009.
■ مسرح الجريمة: الخزينة اللبنانية.
■ الضحية: الشعب اللبناني . 14500 دولار على كل طفل وامرأة وكهل ورجل.
■ المنفّذ: رؤساء الحكومات ووزراء المالية.
■ المحرّض: الطبقة السياسية التي شاركت في الحرب الأهلية وزعماء الطوائف.
■ الآليات: المجالس النيابية والوزارية والمصارف اللبنانية والبنك المركزي.
■ تغطية مسرح الجريمة: صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية ومؤتمرات باريس والدول الحليفة للقائمين على السلطة.
■ الشهود الأموات والأحياء: شرائح الشعب اللبناني التي تعيد انتخاب المحرّضين على الجريمة.
■ تبعات الجريمة: ضرب مؤسسات الدولة بدءاً بالقضاء (عمود الدولة)، الكهرباء، المياه، الزراعة، الصناعة، الإنماء، الضمان الاجتماعي، البطالة، الهجرة، الاقتصاد الريعي، الشرخ المذهبي، التخلّف عن الجوار.
■ هوّة ما بعد الحرب
انتهت الحرب الأهليّة وعُقد مؤتمر الطائف. انتُخب رينيه معوّض وبعده إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية. تألفت حكومتان هامشيتان بعد الطائف برئاسة رشيد الصلح وعمر كرامي جرى خلالهما التمهيد لترؤس رفيق الحريري «حكومة الإنقاذ» وأخذ يد لبنان للالتحاق بـ«التطور العالمي» كي لا يفوته قطار الرفاه.
كان الدين يبلغ 1،75 مليار دولار. يومها لم يكن أكثر اللبنانيين، فضلاً عن غازي كنعان، يعرفون ما معنى سندات الخزينة أو سندات «يوروبوند». انضمَّ لبنان إلى ليبرالية الاستدانة لمواكبة الحداثة ضمن «النظام العالمي الجديد». كانت لرفيق الحريري رؤيا، لكنها افتقدت الاستراتيجية وتقويم المخاطر. «نيّة طيبة وعمل دؤوب» كان هدفهما إلحاق لبنان بدبي، ووضعه ضمن نظام الرأسمال العالمي.
رفيق الحريري راهن على أنّ السلام في المنطقة حتمي وقريب، وأن لبنان سيكون في مقدمة المنتفعين من «الشرق الأوسط الجديد». لتحقيق ذلك كان لا بد من تجاوز الروتين الإداري والتشريعي من جهة، وعدم الوقوف أمام عقبة الاستدانة مهما بلغت كلفتها من جهة أخرى. كان يؤمن بأن حجم الدين غير مهم بل حجم الاقتصاد ونسبة نموّه. يده اليُمنى فؤاد السنيورة تجاوز معلّمه فقهاً وعلماً ليرى أن حجم الدين ليس مهماً ما دامت الدولة قادرة على دفع فوائده.
■ خيبة أمل
أراد رفيق الحريري أن يكون الظاهرة الشرق ـــــ أوسطية صانعة المعجزات. إلى حدّ ما صدّق نفسه وصدّقه الجميع، أراد لبيروت أن تكون كإحدى العواصم البترولية، ناسياً أنها لا تملك إلا بشراً وبحراً وبعض الشجيرات، وأن لا نفط فيها. ويا ليته لا يزال على قيد الحياة ليرى حال دبي اليوم، وما يحصل ليس فقط في العواصم العربية بل الدولية أيضاً، عندما تقترض أكثر من طاقتها على السداد. باستشهاده لم يشهد مآسي البطالة والمآسي الاجتماعية الآتية على العالم. طبعاً دول الخليج ستلتقط أنفاسها ما دام في باطنها نفط. ولكن ماذا في باطن لبنان سوى التكاذب المستمر القائم على «اصرف ما في الجيب يأتِك ما في الغيب».
آمن رفيق الحريري، وببراءة، وتبعه منظّره فؤاد السنيورة لاحقاً، بأن الانتظار لإصلاح الدولة ومنه إنماؤها مستحيل، وبالتالي لا بد من تخطّي عقبات الواقع الإداري والتشريع المعقّد المترابط بالتوازنات الطائفية. لجأ إلى مشاركة أمراء الحرب والطوائف، وتوزيع المغانم عليهم وعلى عرّابيهم في زمن الوصاية السورية ليستطيع إمرار مشاريعه والوصول إلى رؤيته وطموحه.
أصبحت سندات الخزينة الكنز الذي غرف منه الجميع، ومَن لم تسمح له ظروفه في وقتها بالاكتتاب، تأمّنت له تسهيلات مصرفية. حتى الصحافة أصبحت خبيرة بالشؤون المالية، أصبح نجاح واكيم في نظرها مهرّجاً عندما نادى بصوت عال: «الدين سيصل إلى 36 مليار دولار إذا أكملنا على هذا المنوال».
بلغ الدين العام في كانون الأول عام 1997 نحو 15 مليار دولار، وتسلّم سليم الحص الحكومة سنة 1998 ليجد أن الدين المعلن كان 17،9 ملياراً بينما كان هناك 1،3 مليار دولار إنفاقاً غير مشرّع، أي كان الدين الفعلي 19،2 مليار دولار. عاد رفيق الحريري سنة 2000 والدين العام حوالى 24 مليار دولار. قال قبل تسلّمه إنه يعرف كيف يعالج الدين لو عاد وتسلّم الحكم. عاد وعادت الوتيرة، وبدأت الصورة تتعقّد والأوهام تتبدّد. أصبح رفيق الحريري وفريقه أسرى الدين والاستدانة.
وبدأ فؤاد السنورة منذ حينها التنظير لـ«النمو المستدام». وأصبح التوافق بين رب العمل ومهندسه على عدم أهمية حجم الدين بل المهم حجم الاقتصاد وخدمة الدين من خلال نمو الفائض الأوّلي، وأن حجم الدين غير مهم ما دامت وتيرة نمو الاقتصاد أسرع من نموّه، وبالتالي يجب التركيز على دفع العجلة الاقتصادية ولو على حساب استدانة أكبر من السابق. وفشل هذا الرهان كما فشل الرهان الأول على السلام.
لم يكن لرفيق الحريري عام 2001 إلا أن يلجأ إلى صديقه جاك شيراك لعقد مؤتمر «باريس ـــــ 1» الذي لم يكن إلا جرعة معنويات و«لتثبيت الثقة الدولية» بلبنان واستقراره. لم تنفع هذه الجرعة، ونما الدين إلى حدود استدعت مؤتمر «باريس ـــــ 2» عام 2002 ليقف رفيق الحريري وسط 18 زعيم دولة يقولون له: نحن وراءك ومن ورائنا صندوق النقد والبنك الدولي.
«باريس - 2» كان سراباً طبعاً. الكلام في «باريس ـــــ 3» عام 2007، (7،4 مليارات دولار طلبها جاك شيراك شخصياً، ولم يصل إلى الخزينة منها مباشرةً إلا ما دون المليار) كان كما سلفه صارخاً في الشكل، سطحياً في المضمون. فلا أموال فعليّة لإنقاذ لبنان من مديونيّته بطريقة جذريّة، أي بكلام آخر يجب ألّا يغرق لبنان، ولكن لا قرار بخروجه من الأوحال. فقط رأسه في الهواء وجسمه في الوحل.
استُشهد رفيق الحريري في شباط 2005 وتسلّم زمام الحكومة صاحب نظرية «النموّ المستدام». تحدّث فؤاد السنيورة في السنوات الأخيرة عن أسباب عديدة لتضخّم الدين العام، منها على سبيل المثال: تمويل الكهرباء يمثل 40 % من الدين العام!
■ عبء المديونية والثقة
غدا لبنان تحت عبئين مزدوجين متناقضين: أولهما عبء الدين، وهو سلبي لا تستطيع الموالاة الحالية التهرّب من مسؤوليته. تدّعي إمكان مواجهته، لكنها لا تملك إلا وعوداً مستقبلية كالوعود الماضية بأن القوى الحليفة لها لن تتركها في مهب الريح. هذه الوعود كآمال صياد السمك في البحر الهائج، من جهة أخرى، تعي المعارضة الحالية، التي شارك بعض أقطابها في تقاسم مغانم «نظام المديونية»، حجم المشكلة ومنها مَن يعبّر عن اغتباطه في السر بعدم الفوز في الانتخابات الأخيرة، ولكنها كما غطت في السابق من حيث لا تدري (أو تدري) فإنها عاجزة اليوم عن أية مبادرة ذات شأن. أصبح الدين العام كرة نار تريد الموالاة رميها في حضن آخر، ولا تريد المعارضة تلقّفها لعجزها عن المواجهة. بالفعل أصبح حجم الدين أكبر من إمكانات طرف محلي، وللأسف جعل لبنان أكثر من أي وقت مضى أسيراً لابتزازات القوى الإقليمية والدولية في التسويات السياسية. العبء الآخر هو الثقة المفرطة الطارئة أخيراً على لبنان. العديد من الخبراء المخضرمين الذين عاصروا أزمات دول ناشئة أصدروا توقعات سلبية عن لبنان. وما لم يتوقعوه هو أن ترتفع الودائع من 30 مليار دولار إلى 100 مليار دولار، في فترة تعرّض فيها لبنان، وما زال، لاضطرابات سياسية وأمنية. هذه ظاهرة فريدة، جعلت الفريق الحاكم يظهر كأنه محق في نظريته بأن لبنان منيع وأنه قاهر للنظريات المالية المعهودة.
هذه الثقة ـــــ الوهم أصبحت اليوم عبئاً على لبنان. البنك المركزي يرى فيها فرصة ذهبية لزيادة احتياطاته النقدية. ولكن المصارف لم تعد لديها المرونة في توظيف التدفقات المالية المستحدثة. هذا ما حدا بالبنك المركزي إلى أن يصدر شهادات إيداع جديدة ليس بحاجة إليها، وبوزارة المال إلى إصدار سندات خزينة بمبلغ 2500 مليار ليرة تفيض عن حاجتها التمويلية فقط لمساعدة المصارف على استيعاب السيولة.
بكلام آخر سيدفع المصرف المركزي ووزارة المال فوائد على دين ليسا بحاجة إليه فقط لمساعدة المصارف على الإبقاء على هامش ربحيتها (تبعات الزواج الماروني). دفعت هذه الاستدانة المستجدة لامتصاص السيولة إلى رفع نسبة إقراض البنك المركزي للدولة بالليرة إلى 25 في المئة، مناقضاً بذلك توصية صندوق النقد الدولي لخفض مخاطرته على الدولة اللبنانية (هذه التوصية صدرت عندما بلغت النسبة 20 في المئة). لم يخطر ببال أحد أو لا يريد البعض الآخر الاستفادة من توافر السيولة في الحد الأدنى لخفض الفوائد التي لا تزال مرتفعة على الليرة اللبنانية، فالمهم المحافظة على «لعبة الطرابيش».
■ إلى أين؟
سنة بعد سنة، والكلام نفسه لكنّ الأرقام تكبر. المعضلة نفسها والحلول في المبدأ لا تتغيّر وتبدأ بالسياسة.
مَن فهم أسباب الأزمة المالية العالمية وتداعياتها يعرف أن الوضع في لبنان لا يمكن قطعاً أن يستمر إلى ما لا نهاية على الوتيرة نفسها. ما مُورِسَ في النظام المالي العالمي من سياسة الإقراض غير المسؤول والاستهلاك المفرط حصل تماماً في لبنان على قياسه. لبنان لم يتأثر إلّا جزئياً بالأزمة العالمية ولكن أزمته الداخلية بالحجم النسبي والمعايير نفسها.
لم يعتقد أحد من النافذين والمصرفيين في المنظومة المالية العالمية أن هذا النظام قد يتعرض لهزّة كالتي حصلت، ولولا قدرة الحكومات على طبع كتلة نقدية كبيرة لانهار النظام برمّته. وحتى اليوم ليس مضموناً الاستقرار النسبي الذي نتج من الإجراءات الجذرية.
في لبنان المسألة نفسها. فسذاجة الرساميل جعلت السياسيين والمصرفيين في لبنان يصدقون أكذوبة اخترعوها ومارسوها. ولكن هل يعقل ألّا تجتمع رغبة لدى المعنيين في التوحّد لمواجهة الغرق الجماعي بحسب تحذيرات رئيس البنك الدولي السابق جايمس وولفنسون، عام 2002؟ هل يعتبرون من المثل القائل: «إن لم تمت، ألم ترَ مَن مات»؟
المقاربة بين الواقع اللبناني والأزمة العالمية طبيعية مع فارق ليس بسيطاً: لبنان لا يستطيع طبع كتلة نقدية بالدولار في حال خروج الرساميل، وعملته غير ذات جدوى للطوارئ.
يجب ألّا يتوهمنّ أحد أن الهدف كما يرسمونه هو خفض نسبة الدين إلى الناتج من 160 في المئة إلى 140% (ورقم 160% أساساً مختلق). وللتذكير فقط فإن الأرجنتين انهارت عام 2000 وكانت نسبة الدين على الناتج فيها 55 في المئة فقط، بينما اليابان، التي هي من أصلب الدول مالياً تبلغ النسبة فيها 171 في المئة.
إيجابيات الواقع المالي للقطاع المصرفي فرصة قد لا تعود إلى لبنان مرة أخرى. فحجم الودائع مرتفع ويفوق حاجات التسليف في القطاع الخاص. ولدى البنك المركزي احتياطات نقدية مجمّعة تعطيه متانةً لاتخاذ إجراءات معينة. يبقى الأساس بداية الاعتراف بحجم المشكلة، وبأنه إذا كان من المسلّم به عدم محاسبة المسؤولين عنها، فعلى الأقل يجب التوافق على المعالجة الجذرية. وهذا لن يتحقّق بجهد فريق دون الآخر، ولن يستطيع اللبنانيون مواجهة أزمتهم المعقدة بدون جهد عربي ودولي (سيُستعمَل معه الابتزاز).
(الأخبار)
رفيق الحريري: ليس المهم حجم الدَّين، بل النمو وتكبير حجم الاقتصاد
فؤاد السنيورة: ليس المهم حجم أو دفع أصل الدين، بل خدمة الفوائد
جهاد أزعور: حلّ الدين العام يبدأ في تطبيق توصيات مؤتمرات باريس
محمد شطح: لا مشكلة في حجم الدَّين ما دام لدى المصارف كتلة نقدية كبيرة
أرقام لمن يُحسن القراءة
■ حجم الدين المعلن: 48 مليار دولار حتى نيسان 2009.
■ حجم الدين الرسمي المتوقع نهاية عام 2009: 52 مليار دولار.
■ حجم الدين الفعلي المتوقع نهاية عام 2009: 58 مليار دولار.
■ حجم الناتج القومي لعام 2009: 27 مليار دولار.
■ نسبة الدين العام الفعلي إلى الناتج الفعلي في عام 2009: 215%، وهي أعلى نسبة بين الدول المصنّفة عالمياً.
■ نسبة عجز الموازنة إلى الناتج المحلي: 16%، وهي أعلى نسبة بين الدول المصنّفة عالمياً.
■ حجم الإنفاق العام بين 1993 و2008: 103 مليارات دولار.
■ كلفة بند الفوائد منذ عام 1993 حتى نهاية عام 2008: 40 مليار دولار، فيما لم يتعدّ الإنفاق الاستثماري 12 مليار دولار.
■ نسبة تمويل الدين بالليرة: 25% للبنك المركزي.
■ تسليفات المصارف للقطاع الخاص: 21% من إجمالي الودائع.
■ نسبة الودائع على الناتج المحلي: 370%.
■ نسبة الدين المموّل داخلياً على الودائع: 50%.
■ نسبة الدين المموّل من المصارف على رأس المال: 400%، بما فيها ودائع واحتياطات المصارف لدى البنك المركزي.
أصبح الدين العام في لبنان المحرّك الأهم لاستمرار النظام السياسي القائم، وأداة لتوزيع المغانم والنفوذ، في ضوء جفاف المصادر الأخرى.
مصرفيو لبنان يعرفون أن أوّل أصول العمل المصرفي عدم إقراض عميل واحد أكثر من 10% من إجمالي الودائع، فكيف يمكن تفسير إقراضهم 400% من مجموع رأسمالهم و50% من مجموع الودائع لعميل واحد هو الدولة اللبنانية؟ أحد المصارف غيّر إدارته لأنها كانت تعتمد التحفّظ في شرائها سندات الخزينة، وتسلمت الإدارة الجديدة لترفع أرباح المصرف من 3 ملايين دولار إلى 42 مليون دولار في سنة واحدة!
طبعاً الرقم هواية. فلا أحد يشير إلى أن دين المصارف للدولة ليس فقط ما تكتتب به في سندات الخزينة والـ«يوروبوند»، إذ إن المصارف تملك بطريقة غير مباشرة دين البنك المركزي على الدولة. فهي عندما تشتري سندات خزينة من الدولة أو تودع لديه احتياطات إلزامية أو اختيارية، تتذاكى بالادعاء أن هذه المبالغ أو الاكتتابات هي مخاطرة على البنك المركزي، لا على الدولة.
هل من فرق فعلي بين الاثنين؟ هل هناك دولة أفلست وبقي مصرفها المركزي ثابتاً؟ بصراحة في لبنان المصرف الوحيد هو المصرف المركزي، والمصارف المسجلة هي فروع له، يعطيها تعليمات ويوزّع عليها بالتوافق أرباحها السنوية، والكل يعتقد أنه كمَن يرقص في نادٍ ليلي ليس له مخرج طوارئ، فيقف على أقرب نقطة خروج له في حال حصول شيء ما.