كان الوقت يقارب العصر عندما وقفت والدة يوسف شعبان أمام دائرة التحقيق والإجراء التابعة للأمن العام تنتظر وصوله إليها. موكب يوسف كان قد انطلق من مخفر جبيل آتياً إلى بيروت. تقول أم يوسف إن ابنها البكر ولد في يوم جمعة وصدر العفو عنه في يوم جمعة. وتستبشر خيراً. تتذكر يوم الجمعة الأخير هذا. تقول إن محامية ابنها، مي الخنسا، اتصلت بها وطلبت منها ألا تنظم العائلة والأصدقاء اعتصامهم الدوري لأن هناك أخباراً جيدة. وهكذا كان، وصدر العفو. تنبش الحاجة من ماضيها في لحظات الانتظار الأخيرة. تتذكر أبو يوسف الذي توفي وترك لها «كوماً» من الأطفال. عملت على آلة الخياطة من اجل أن تربيهم.
آمال، زوجة يوسف وأم أبنائه الثلاثة، تقول إنها لمحت رئيس الجمهورية خلال نومها قبل فترة من إصدار العفو. كان يرتدي بذلة رسمية. أمسكت بذراعه وسارا سوية. المنام كان فأل خير. تستغرب أم يوسف كلام كنتها عن المنام. لكن آمال ما زالت مصرة أنه كان فأل خير عليها.
ترفض أم يوسف الصعود إلى السيارة من اجل نيل قسط من الراحة بناء على إلحاح ابنها بلال صاحب العينين الخضراوين. معظم أبناء أم يوسف ورثوا هاتين العينين عنها. لن تستطيع أن تجلس لا في السيارة ولا على الأرض. لا تحتمل الانتظار جالسة. تتمنى لو تخلع نعليها وتتمكن من الركض إلى أول الشارع حتى تلاقي ابنها هناك وتقصر المسافة بينها وبينه.
المصورون الصحافيون يتوافدون واحداً تلو الآخر. تطل سيارتان أميركيتان لقوى الأمن الداخلي. تقتربان من دائرة الأمن العام التي تقع في أسفل جسر ويسجن فيها المحكومون الأجانب. تبحث العيون عن يوسف، الذي رفع يديه المخفورتين محيياً الحاضرين. لكن سيارتي الأمن الداخلي انسحبتا إلى ناحية مدخل السيارات بعد هجوم المصورين عليهما لالتقاط الصور.
هكذا تنتقل العائلة لتقف تحت الجسر، أمام بوابة الموقف، بانتظار الإفراج. أبناء يوسف الثلاثة هنا. محمود وحنين وأحمد. كل واحد منهم مشغول برفاقه. الوالدة. الزوجة. الشقيقان. بلال يوزع القمصان البيضاء التي تحمل صورة شقيقه، وإبراهيم يحمل بطاقة لجوء شقيقه وجواز سفره لتلقطها آلات التصوير.
تتحدث أمال عن أبنائها الذين كانوا صغاراً وكبروا بعيداً عن عيني والدهم. معانقتهم له لم تكن تتم إلا بإذن خاص من النيابة العامة. بقية المقابلات كانت تتم من خلف الأسلاك الشائكة أو بواسطة الهاتف. في آب المقبل يحتفل محمود وحنين بعيدي ميلادهما مع والدهما. كذلك يفعل أحمد في الشهر الذي يليه. عندما كان يوسف في السجن لم يكن ينسى أعياد ميلاده أبنائه. كان يصنع لهم أشياء يتذكرهم بها أو يرسل لهم الهدايا وبطاقات المعايدة.
تحضر محامية يوسف مي الخنساء، مبتسمة. هذا يومها أيضاً، فقد اختتمت قضية موكلها بنصر مبين ولو جاء من خلال عفو لا محاكمة. تسألها أم يوسف عن موعد الخروج، فتجيبها: «اليوم». بالنسبة لأم يوسف هذا اليوم يعادل وحده عشر سنوات من الانتظار. لو عرفت أن إبراهيم ذاهب لمواكبة أخيه من جبيل لذهبت معه. لكن أم يوسف تعودت على الصبر وستنتظر الدقائق الأخيرة من أجل طي الصفحة الأخيرة من قصة ابنها. تسوّي حجاب المحامية ثم تقبلها في خدها.
وبرغم أن الأوراق الثبوتية ليوسف كانت في يد محاميته التي تقف مع أهله كلهم في الخارج، لا يعلم أحد كيف خرج يوسف. لم يكن قد دخل احد من أهله بعد ليرافقه في الخروج. هو الذي خرج ليلاقيهم. من الواضح أن هناك يدا خفية كانت تدفع من أجل إنهاء هذه المهمة في أسرع وقت. الإجراءات من توقيت الوصول إلى الأمن العام وحتى الخروج منه بالكاد أخذت ساعة من الوقت أو أكثر بقليل.
فجأة صار الرجل الذي بحث عن الحرية ستة عشر عاماً في أحضان عائلته. بدا متماسكاً يستند عليها فرداً بعد آخر. يريد أن يشكر من كان لهم الفضل في خروجه. يسمي رئيس الجمهورية بـ«فخامة العظيم» ووزير العدل بـ«الملك».
تقبله زوجته كثيراً أمام وسائل الإعلام، فيخجل. يقول لها: «عيب». لكن آمال تبدو غير عابئة بشيء. على طول الطريق نحو السيارة «آويها» أم يوسف لا تتوقف. نفس العجوز صار كنفس شابة ابنة عشرين. يوسف يستند بذراعيه على السيدتين اللتين ما تركتاه. عندما ترى حنين والدها تركض صوبه وتقفز عليه مرة واحدة بيديها ورجليها وتضمه. تضمه بشدة. ثم ينضم إليها أخواها لتصبح حفلة العناق عائلية، تجمع الكل.
إلى مخيم برج البراجنة ينطلق موكب السيارات التي تحمل صور رئيس الجمهورية والأعلام اللبنانية والفلسطينية. على مدخل المخيم يسحب الشبان يوسف سحباً من نافذة السائق ويرفعونه على الأكتاف. كبطل يخرج أهالي المخيم لملاقاته بالطبل والزمر والزغاريد والأرز المنثور. الفلسطينيون شكروا الرئيس أيضاً على موقفه النبيل عبر لافتة رفعوها على مدخل المخيم.
يضيع الرجل وسط ازدحام الحاضرين. الكل يريد أن يسلم ويعانق ويقبل العائد المتأخر. أم يوسف تتلقى التهاني من الجميع. تقبل الكبير والصغير، الذي تعرفه والذي لا تعرفه. ويوسف يرفع شارة النصر ويبحث بين الوجوه التي تغير معظمها عليه بعد كل هذه السنوات.
بين الأزقة يمشي إلى منزله ويسير المخيم خلفه. والشبان المتحمسون يصنعون حلقة بشرية حوله ويغنون «عالرباعية رافعين الراس فلسطينية». الصبية بالأحمر التي لا تكف عن البكاء هي ابنة شقيقته. تقول للحاجة التي تسألها عن سبب الدموع «خالي، خالي الذي لم أره بعد».
في فسحة صغيرة يقف الجميع كي يلقي بهم كلمة. الكلمة الأولى لأم يوسف التي تقول إنها لا تستطيع أن تصف شعورها بعد حرمان دام 16 سنة. تنفض حبات الرز عن شعر بكرها وثيابه. التدافع لا يتوقف. يشكر يوسف وسائل الإعلام وأبناء الشعب الفلسطيني معتبراً النصر للحقيقة والعدالة والشعب اللبناني»لأني محكوم باسمه». حين يُسأل عن تعويض السنوات الست عشرة يجيب بأن تعويضه هو نصر المقاومة وحزب الله والسيد حسن (نصر الله). ويضيف: «أقول للقضاء اللبناني، مبدئياً، سامحه الله»، ثم يكرر شكره لرئيس الجمهورية ووزير العدل. وحين يسأل عن حقوقه المدنية التي حرم منها، يعلق: «الشعب الفلسطيني كله محروم منها»، فينال التصفيق.
وإذا ما كان يوسف سيطالب بتعويض عن سنوات السجن الست عشرة أشارت الخنسا إلى انه سيتم دراسة هذا الموضوع مع يوسف، و«نترك مسألة التعويض ولاحقاً نتكلم بها».
أم يوسف ختمت القصة. قالت إن هذه الفرحة الأغلى في حياتها. صارت تبحث في الأسماء التي وقفت معها كي لا تنسى أحداً في شكرها. أمسكت ابنها بيده إلى المنزل لتفي نذراً استحق عليها. ذبح الخراف.
Mon | Tue | Wed | Thu | Fri | Sat | Sun |
---|---|---|---|---|---|---|
31 | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 |
7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 |
14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 |
21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 |
28 | 29 | 30 | 1 | 2 | 3 | 4 |